م. بدر بن ناصر الحمدان
المعماري فيليب جونسون يعرف العمارة على أنها «فن تبديد الفراغ»، وبعبارة أخرى هي محاولة لإعادة تشكيل الفراغ وتحويله إلى مكان قابل للعيش الموجه لإنسان المدينة ضمن مجال عمراني ثلاثيّ الأبعاد، هذا يقودنا إلى جدلية الكتلة والفراغ وأي منهما يمكن أن يكون مُنتجاً للآخر، لذلك يذهب عدد من المفكرين الحضريين إلى أن وظيفة الشارع يجب أن تتحول من قناة ناقلة للحركة إلى قناة ناقلة للحياة، باعتباره العنصر الأكثر قدرة على تغذية المناخ الإنساني وإبقائه مكاناً يافعاً.
أحد أهم مكونات عصب الفراغ الذي هيمن على تشكيل جسد المدن منذ مراحل نموها الأولى، هو «الشارع»، والذي يعتبر منطقة ارتفاق عامة وجزءا رئيسا من التكوين الفيزيائي للمدن حتى قبل ظهور المركبات، عندما كان فراغاً ممتداً لعبور الناس والعربات، وبالرغم من هذا التاريخ الطويل لهذا المكون العمراني إلا أن «عمارة الشوارع» لم تصمد وفق نسختها التقليدية وأخفقت أمام التحول العمراني الجارف الذي شهدته المدن ويرجع ذلك إلى أن المعايير العمرانية ذاتها لم تُمكن من إحداث الديناميكية المكانية المطلوبة تجاه المتغيرات التي حدثت في بيئة العمران الجديد.
العودة إلى عمارة الشوارع التقليدية يمكن أن تكون نهجاً لمشاريع «التجديد الحضري» وذلك من خلال إعادة تأهيل الشوارع التراثية والتاريخية القائمة والتي ارتبطت بذاكرة الناس والمكان، وتعزيز بُعدها الإنساني - الذي لا يقتصر على تخصيصها للمشاة فقط - بل القدرة على إحداث التوازن بين المركبات ورواد الشارع من خلال تحكم متقن بتشكيل الفراغ وعناصر التصميم الحضري، فالشوارع التاريخية كانت العنصر العمراني الأهم في إدراج عدد من مراكز المدن في قائمة التراث العالمي باعتبارها من شواهد توثيق واستعادة القيم الحضارية للمكان.
تجدر الإشارة إلى أن عمليات المحافظة على هذه الحيزات العمرانية يجب أن تراعي مبادئ المعايير الفنية والتنظيمية التي تعود جلّ مصادرها إلى «مواثيق ومعايير التراث الثقافي» المتعددة وربما أهمها تلك التي تناولت المحافظة على البيئات الحضرية ذات القيمة مثل (ميثاق البندقية 1964) للمؤتمر الدولي الثاني للمعماريين والفنيين في المعالم التاريخية، ميثاق (أبلتون 1983) لحماية وتحسين البيئة العمرانية، ميثاق (واشنطن 1987) بشأن الحفاظ على المدن التاريخية والمناطق.