عبدالرحمن الحبيب
دائماً ما تكون التحليلات والنقاشات حول الإرهاب بعد حصول موجة إرهاب معينة على المستوى الإقليمي أو العالمي، حيث يتم تناول طرق مواجهة الإرهاب والتنبيه لمسبباته مثل التطرف الفكري من تعصب ديني وقومي أو الظروف الاجتماعية والثقافية.. لكن الإرهاب يظهر حيناً ويخفت حيناً، فلماذا يقوى في أزمنة ويضعف في أخرى؟ وهل هناك نمط زمني أو موجات زمنية لذلك؟ وإذا كان كذلك فهل يمكن توقع الموجة القادمة قبل حصولها ومن ثم الاستعداد لمواجهتها كما نستعد لمواجهة الأعاصير والزلازل المتوقعة؟ هذا ما يحاوله الباحث البارز في مجال العنف السياسي ديفيد رابوبورت (بروفيسور جامعة كاليفورنيا).
خلافاً لكل الأساليب والمناهج المعهودة، قام رابوبورت بطرح نظرية جديدة عن الإرهاب في كتابه «الموجات الأربع للإرهاب الحديث» التي تعد إحدى أكثر النظريات تأثيرًا ونقاشًا على نطاق واسع في مجال دراسات الإرهاب؛ وكان هذا الكتاب بعد الهجمات الإرهابية بالولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001؛ وبعدها نشر المؤلف العديد من الدراسات والكتب، كما صدر مؤخرًا كتاب جديد له بعنوان: موجات الإرهاب العالمي: من عام 1879 حتى الوقت الحاضر.
يوضح رابوبورت أن الإرهاب سمة من سمات المجتمع البشري عبر الأجيال؛ طارحًا فكرة أن التهديد الإرهابي العالمي الحديث يأتي على موجات زمنية كل 40 عاما تقريبًا، ولكل موجة ديناميكيتها، وقارن بين محفزاتها وتكتيكاتها وأهدافها وطرق هجماتها وأسباب خفوتها، ثم وضعها في سياق تاريخ الإرهاب على المدى الأطول.. وفي الأخير صاغ توقعًا للموجة الخامسة القادمة، كما نستخلصها من أطروحة ماجستير للباحثة إيرين وولز.
الموجة الأولى للإرهاب أطلق عليها الموجة الأنكارية (الفوضوية) التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر مع الحركة الأناركية بعد التطورات التكنولوجية التي غيرت من الاتصالات والنقل، ومكّن الديناميت الأفراد أو المجموعات الصغيرة من تنفيذ التفجيرات وإحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر. هذه الموجة انبثقت من روسيا وفي نهاية المطاف عمت جميع أنحاء أوروبا ودول البلقان، واغتالت شخصيات بارزة فيما أسموه «دعاية الفعل»؛ وفي النهاية أدى اشتعال الحرب العالمية الأولى إلى إعادة توجيه الأولويات السياسية لأوروبا مما كبت الموجة الأناركية.
تبع ذلك الموجة الثانية وأسماها الموجة القومية أو «المناهضة للاستعمار» التي ظهرت في الإمبراطورية البريطانية عشرينيات القرن الماضي؛ بداية بالمبدأ السياسي لما بعد الحرب العالمية الأولى بإعلان مبدأ تقرير المصير، وتطورها العنيف إلى حق قانوني بعد الحرب العالمية الثانية.. نتج عنها نزاعات إقليمية لجهات ترى أنها لم تحصل إلا على أجزاء مما تريده فتولدت منظمات إرهابية استهدفت الشرطة والجيش. مع نهاية الحرب العالمية الثانية تفككت الإمبراطوريات الأوروبية، وانتفت مبررات تلك الموجة فتضاءلت.
الموجة الثالثة أطلق عليها «اليسارية الجديدة» كانت شرارتها حرب فيتنام.. خلال الستينيات، ركزت الجماعات الإرهابية على استخدام الأفكار المتوافقة مع الاشتراكية الماركسية لمحاولة إسقاط النظام الرأسمالي القائم، ومن أشهرها الألوية الحمراء الإيطالية، والجيش الأحمر الألماني، العمل المباشر الفرنسية.. وكان من أساليبها احتجاز الرهائن وخطف الطائرات. في نهاية المطاف، أدت مقاومة المجتمع الدولي الثابتة لمطالب الإرهابيين وإحجامه عن التفاوض مع الخاطفين إلى تبديد هذه الموجة.
أخيرًا الموجة الحالية وأطلق عليه رابوبورت «الموجة الدينية» التي بدأت مع سقوط شاه إيران والغزو الروسي لأفغانستان عام 1979.. وتشكلت معظمها في العالم الإسلامي وكانت التفجيرات الانتحارية أكثر وسائلها، وستخفت بحلول عام 2025 إذا ظلت دورة حياة الأجيال ثابتة كما يتوقع «رابوبورت»، الذي يتوقع أيضًا أنه سيليها ظهور موجة خامسة من الإرهاب المناهض للمهاجرين أو الإرهاب العنصري الأبيض حسبما نلاحظ اليوم من الاعتداءات العنصرية؛ ومثلما يطرح البعض من أن ثمة مؤشرات لمخاطر محتملة تبدو من خلال سياسات الاستقطاب، وبزوغ الشعبوية وتزايد المشاعر المناهضة للمؤسسات الرسمية.. بالمقابل يعترض بعض خبراء دراسات الإرهاب على هذه التوقعات مشيرين إلى أن القوة غير العادية للموجة الدينية ستسمح لها بالبقاء لفترة أطول من سابقاتها.
يبقى السؤال عما إذا كانت الموجة الرابعة التي تنحسر حاليًّا ستتلاشى في 2025 كما توقع رابوبورت وستظهر موجة خامسة جديدة؟ وهل التوترات الحالية في المجتمعات بما في ذلك العوامل التكنولوجية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية من شأنها إما إطالة عمر الموجة الرابعة أو تشجيع ظهور موجة خامسة جديدة؟ كيف يمكننا معرفة متى تنخفض إحدى الموجات وتبدأ موجة جديدة في الظهور؟ تنص نظرية رابوبورت على أنه عندما لا يمكن لقوة الموجة أن تؤثر على تشكيل مجموعات جديدة، فإن الموجة ستبدأ في الاختفاء، رغم أن عددًا قليلًا من المجموعات القوية يمكن أن يؤثر على دورة حياة الموجة ويطيل أمدها..
هناك، أيضًا، ثلاث نظريات أخرى مختلفة للموجة الخامسة قدمها كل من: جيفري كابلان، جيفري سيمون، أنتوني سيلسو؛ لكن لا توجد طريقة موثوقة للتنبؤ بالسلوك البشري إلا أنه عند محاولة توقع المستقبل لا يمكن تجاهل الحركات الاجتماعية والسياسية التي تحرك الناس؛ فالإرهاب ظاهرة ديناميكية، وأي أطر نظرية وصفية أو تنبؤية يجب أن تتمتع بمرونة تسمح بالأخذ في الاعتبار القيم غير المتوقعة التي تنشأ وتنحرف عن السياق المتوقع لتظهر حالات غير متوقعة ولم تكن في الحسبان..