د. محمد بن عويض الفايدي
الإرهاب تحدي العصر وأداة تعميق الصراع، وقد لا يحاط بمقدار تعقيد هذه الظاهرة، وصعوبة التعمق في خفاياها، وفهم مكوناتها وعوامل تشكلها، ولعل العنصر المغيب في التعامل معها يتمثّل في إدراك نواة الشخصية الإرهابية وكيفية تشكلها ونموها. والإرادة وخلفية بنائها ومدى صمودها؟ ونقطة انهيارها في جرف التطرف والتكفير الإرهاب والتفجير والتدمير على مستوى الإرهابي نفسه، وعلى مستوى المجموعات الإرهابية، وعلى مستوى التنظيم والجريمة الإرهابية، ومسرح الإرهاب المحلي والإقليمي والدولي وبيئة الإرهاب ذاتها. فضلًا عن التنظيمات الإرهابية وخلفية نشأتها وتكونها وانشطارها الرأسي والأفقي وقوى توجيهها ومكونات قيادتها ومنطلقات زعاماتها وأدوات الترشيح وسمات وخصائص نيل المناصب والتدرج فيها. ناهيك عن قوى الصراع وأدوات تعميقها من خلال تنظيمات الإرهاب، ومحركات التنظيمات ونقاط الارتكاز فيها للزعيم والمُنظر والمُستقطب والجاذب والمُيسر والمُعرف والمُجند والمُهيأ والمُدرب والمُحفز والمُنفذ. ثم أين تتركز الخارطة الجغرافية لكل هؤلاء؟ وأين يلتقي البعد الجيوسياسي لعناصر هذه المنظومة وأدوات تسليحها وتقنياتها وتمويلها وتدريبها ودعمها اللوجستي، وكيف تُخترق؟ وأين مفاصل تنفيذ عملياتها؟ وكيف تختار أهدافها، وكيف يتم تسييل وتمييع الحدود لها وبها بين الدول؟ ومتى يتم الانشطار في التنظيم للتعمية؟ في هذا السياق يظل الإعلام شريكاً فعلياً للإرهاب في كل مراحله وبكل فنونه وأدواته المقروءة والمرئية والمسموعة وخاصة التلفزيونية والإعلام الرقمي بما فيها وسائل التواصل المجتمعي وخدمات الإنترنت جميعها أسلحة وأدوات تُسهم في نشأة الانحراف الفكري والتطرف والإرهاب وتكونه وتغذية جذوره وفي الوقت نفسه تدخل في الكشف عن أسبابه وعوامل نشؤه ومعالجته والتصدي له.
يعمل الإرهاب على تطوير وسائله وتقنياته لتحقيق أهدافه، واعتمد في جل ذلك على وسائل الإعلام الحديثة للسيطرة على العقول وتجنيدها وللتسويق لغاياته وأهدافه ونشر رسائله للعالم بطريقة أسرع وأبلغ تأثير. من هنا كانت وسائل الإعلام العنصر الأبرز في نشر المعتقدات الخاطئة والعنف والتطرف والإرهاب، والأداة الأجدى لتنظيمات الإرهاب في تفعيل إستراتيجياتها وخططها الإعلامية لكسب المؤيّدين والمتعاطفين أو توسيع محيط المحايدين، وكذلك تحقيق الأهداف الإستراتيجية بصورة أسرع وأسهل وأوفر في صراع شرس لتوسيع دائرة الاستحواذ على الجمهور وعوائد الإعلانات المالية، وكسب المزيد من الأموال التي تتدفق في حسابات الفضائيات والصحف وسراديب الإعلام الرقمي والذي بدوره جعلها تنتهج سياسة الإبهار بما يبثه الإرهابيون من مشاهد وصور تُبهر الجمهور بتوظيفها لفن الإخراج والتصوير والمونتاج والعرض بتقنيات عالية تضاهي فنيات الإخراج السنيمائي. فضلاً عن رمزية الصورة البطولية التي يرسمها الإعلام للإرهابي بتقديمه في صورة بطل متوشح السلاح بكميات كبيرة من الذخيرة الحية ويتحدث بصوت جهوري في ملابس سوداء وإكسسوارات براقة توحي للمشاهد خاصة جيل الشباب بمصدر القوة والاعتزاز والإيمان بالأهداف مستندين في ذلك إلى مفاهيم الهندسة النفسية التي تدرك مدى تأثير الصورة واللقطة الواحدة في ملايين الأشخاص، والسرعة في استغلال سرعة تداول الأخبار، وسهولة التخلص من حسابات فيسبوك، وتويتر، وانستقرام، ولينكدإن، وفيسبوك ماسنجر، وتيك توك، تليغرام باينتريست، ووي تشات، وسينا ويبو. وصعوبة وصول أجهزة مكافحة الإرهاب إلى المصدر كل ذلك ميسرات جعلت المنظمات الإرهابية تتخذها وسائط إعلامية لنقل رسائلهم بعيدًا عن أعين الرقابة والضبط، والذي بدوره يساعدهم في التعبئة وتجنيد إرهابيين جدد يمكنهم من المحافظة على التنظيم واستمرار مجاميعه وخلاياه وبقائها وتطورها، وفي الوقت نفسه يستغلون تعاطف فئات أخرى من مستخدمي الإنترنت مع قضاياهم ويجذبون صغار السن بأساليب ملتوية وبعبارات حماسية مثيرة وجذابة ثم يستفيدون منهم في تمرير أجنداتهم إن لم يكونوا قد استقطبوهم.
المطبخ الإعلامي وسيلة فعَّالة لتنظيمات العنف والتطرف والإرهاب في فتح قنوات التواصل بين العناصر الإرهابية على مستوى الاستقطاب والتجنيد والتدريب والإعداد أو على مستوى تجهيز وتنفيذ العمليات الإرهابية. فضلاً عن تواصلها مع مجموعات جديدة في أماكم متباعدة في المكان ولكن متقاربة الأيديولوجيات والفلسفات. وبالتالي صنع الإعلام تنظيمات الإرهاب والتطرف مادة إعلامية يومية تتصدر أخبارها النشرات التحليلات اليومية، والذي يُعد مبالغة واقعها وحجمها النسبي. والذي بدوره جعل من ذلك مادة محورية للبحث العلمي والدراسات المتخصصة والباحثين عن استخدام التنظيمات الإرهابية للإعلام أو استخدام الإعلام في مواجهتها في تداخل مزدوج يحمل العديد من نقاط التعجب وعلامات الاستفهام.
تنظر تنظيمات التطرف والإرهاب إلى الأذرع الإعلامية باهتمام بالغ، في يقين منها أن العمل الإعلامي جزء من العمل العسكري لا يتم إلا به. وفي ذات النسق تستخدم التنظيمات الإرهابية الإعلام جزءاً من إدارة الصراع السياسي. وأيضًا يبدو على الخارطة الدولية للإرهاب أن هناك دعم واضح من بعض الدول خاصة الكبرى والمشاكسة لجماعات وتنظيمات العنف والتطرف والإرهاب وذلك بتسهيل مهامها والسماح لها بتدشين منصات إعلامية، وأحيانًا تُسمى قوى متطرفة بأنها معارضة مشروعة وتتيح لها المنصات الإعلامية لتُدافع عنها أو تستخدمها لتحقيق أهدافها الدعائية والتخريبية. وفي هذا السياق يبدو المشهد وكأنه تمكين للإرهابي من حرية الوصول إلى منافذ وسائل الإعلام من خلال التغطيات والتحليلات الإعلامية للعمليات الإرهابية، وكأن الإعلام يكفيهم جهود القيام بهذه المهمة ويقدم لهم مكافأة مجانية على أفعالهم الإجرامية بتمكينهم من مخاطبة الجمهور دون أي جهد منهم.
لعبت وسائل الإعلام دورًا محورياً في المساعدة في زرع العنف والكراهية والرعب وتنمية فكر التطرف والانحراف الفكري والإرهاب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال مساحة الحرية المطلقة التي حظيت بها منظمات العنف وأفكار التطرف والإرهاب على شبكة المعلومات الدولية ومن خلال الإعلام الرقمي بالترويج لمعتقداتهم وتسويق ونشر أفكارهم من خلال البيانات والمعلومات والتصريحات والكتب والأفلام على مساحة شاسعة وواسعة من الكرة الأرضية بيسر وسهولة وبطريقة غير مسبوقة لها خصائص احترافية. كما ساهمت وسائل الإعلام التقليدية والإعلام الرقمي بتهويل وتضخيم قوة وإنجازات الإرهابيين لتحقيق الإثارة الجماهيرية والسبق الصحفي بهدف الكسب المادي في ظل المنافسة الشرسة بين وسائل الإعلام المختلفة وقيام بعض القنوات الفضائية بعرض مناظر ومشاهد مأساوية وصور مفجعة تُبين حجم الأضرار ومستوى الدمار بشكل متكرر ومبالغ فيه. وعرض وجهات نظر الإرهابيين بشكل مبهم دون التمكين من الرد عليها وفضح حقيقتها. كما أن هيمنة المسار الإخباري على تغطية وسائل الإعلام للفكر الإرهابي وسلوك الإرهابيين في ظل ضعف التغطيات ذات الطابع التحليلي والتفسيري لتلك السلوكيات والأفكار يُعمق أبعاد المشكلة ويزيد من تعقدها.
تفتقد في الغالب وسائل الإعلام المختلفة إلى الباحثين والمتخصصين والخبراء في المجالات ذات الصلة بالسلوكيات الإرهابية وخاصة في المجالات الأمنية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية إيصال حقيقة هذا الفكر وتلك الحوادث للمشاهد بعيدًا عن التضخيم والتهويل الإعلامي الذي يبث دعاية الإرهابيين التي قد تكون نتائجها عكسية. ويبدو أن الإرهابيين قد تمكنوا من تسويق لقاءاتهم وأهدافهم وأغراضهم بالأساليب الاحتيالية لتظليل أجهزة مكافحة الإرهاب، والسيطرة على الرأي العام من خلال النشر المستمر لأخبار العمليات الإرهابية التي يتم تنفيذها وجعل ذلك معيار لقياس نجاحات أعمالهم الإرهابية نتيجة لقيام وسائل الإعلام بنشر ما يبثونه عبر وسائلهم الإعلامية المختلفة من أماكن متعددة ومن خلال وسائط تقنية متطورة.
سياسة التحريض التي تنتهجها وسائل الاتصال الجماهيري بالعمل على تعميق الكراهية والحقد والسلوك الإرهابي والمتطرف بالشحن المستمر والفساد المتواصل لعقول الشباب، والذي بدوره يؤدي إلى ارتكاب حماقة تتبنى تفجيرات إرهابية تودي بحياة الكثير يتم من خلالها انتقال الأفكار السوداء واستنساخ السلوكيات الإرهابية لتنتقل من جيل إلى جيل عبر جيل والذي قد وصل إلى الجيل الرابع الابن والأب والجد وجد الأب في صور مركبة يتدرج فيها التطرف والإرهاب عبر أسرة ممتدة تورث جذور التطرف والإرهاب وتغذي جذوته لدرجة قد يصعب معها انفكاكه ضمن صور تحريض تراتبية بين البغضاء والكراهية والضغائن والأحقاد بفساد رأي المحرض الذي جعل دائرة العنف في صورة قاتمة ظاهرها فيها الرحمة وباطنها قبلها العذاب تحطم كل شيء ولا تعرف إلا القتل والتدمير والتفجير.
يصنع الإعلام القدوة الإرهابية ليجد الإرهابي قدوة جاهزة قد صنعها الإعلام ضمن قوالب متجددة يمررها الإعلام دون قيود أو عوائق حدود بين مختلف دول العالم ليتعولم الإرهاب وتنشأ تنظيمات للعنف والانتقام والتكفير قد لا تحتاج لبناء عقائدي طويل الأجل من أجل الإيمان بالأفكار في صور يتقدم فيها الانتقام السياسي أو المذهبي ليتم تنفيذ عمليات القتل والتفجير ثم يأتي لاحقًا الغطاء العقائدي الذي يُبرر تلك الصور السوداوية للقتل والتفجير.
استغلال تنظيمات وعناصر الإرهاب لوسائل الإعلام للحصول على منابر تُحقق العلانية لهذه التنظيمات وعناصرها وتضمن لها الحضور الإعلامي الدائم للوصول إلى فضاء الرأي العام في تضارب واضح بين حق الوطنية وأهمية المحافظة على الأمن الوطني، وحق الأفراد في المعرفة والاطلاع على ما يحدث في المجتمع، وبالتالي تتعقد المشاهد وتتشابك المواقف في ظل هذه العلاقة المعقدة بين حق الوطنية من جهة والسبق الصحفي والإثارة الإعلامية ومكاسبها المادية من جهة مضادة. وبين هذه التقاطعات العايمة يتعرض الصحفيون والإعلاميون لحالات من احتجاز الرهائن والاختطاف والتغييب من قبل عناصر ومنظمات الإرهاب أما للمطالبة بفدية مالية لتمويل المشروعات الإرهابية أو للضغط على الدول لتنفيذ مطالب معينة أو للحصول على الهالة الإعلامية والدعاية التي تجعل لتلك العناصر والتنظيمات قيمة توحي بنجاح مشروعاتها الإرهابية التي يمكن أن تستقطب من خلالها فئات جديدة من الحاقدين والبسطاء والجاهلين والمهمشين اجتماعيًا لتصنع منهم لبنات مشروعات وخلايا متجددة توظفها في الزمان والمكان الذي تحدده.
تتعاظم رحى الصراعات في ظل ما ينتهجه الإعلام الغربي من تحيز غير خافي يدحر صبغة الإرهاب عن رعايا الدول الغربية ويلصقه بدول المشرق والعالم العربي والإسلامي، وبين ما يفرزه التطرف والإرهاب من تحدي محلي وإقليمي ودولي يعاني منه العالم عامة والشرق الأوسط والوطن العربي خاصة في إطار منظومة إرهابية دولية تقتات على أجساد أنهكتها الثورات والحروب واستقلتها تنظيمات الإرهاب لتتكسب من ورائها أموال تنفقها على عناصرها ومشروعاتها الإرهابية القادمة التي قد تتخطى مخاطر الإرهاب التقليدي إلى مخاطر الإرهاب الإلكتروني، والإرهاب النووي، والإرهاب البيولوجي، الذي يجعل من تحديات الإرهاب القادم بصوره الغاتمة أكثر تحديًا لصناع القرار وراسمي السياسات ومراكز البحوث والدراسات، ومهمة في غاية الصعوبة والتعقيد ما لم تتظافر جهود الدول لفك التشابك بين الإعلام والإرهاب وتحييد عناصر ومنظمات التطرف والإرهاب من استغلال الطفرة الإلكترونية، والاستشراف الجاد لمخاطر الإرهاب غير التقليدي.