حمّاد بن حامد السالمي
* نواصل الكلام على القصيدة النقفورية الملعونة بعد الجزء الأول من المقال:
(https://www.al-jazirah.com/2023/20230115/ar2.htm )، ففي سنة 362هـ؛ هجم الروم على نصيبين، فاستباحوا وقتلوا كثيرًا من رجالها، وسبوا من نسائها وصبيانها، وغلبوا على ديار ربيعة بأسرها، وكان فوقاس قبل اعتلائه عرش بلاده؛ قائدًا من قواد الجيش البيزنطي، وشن على البلاد الإسلامية غزوات كثيرة. وصف المؤرخ ابن كثير ما فعله نقفور فوقاس فقال: (كان من أغلظ الملوك قلبًا، وأشدهم كفرًا، وأقواهم بأسًا، وأحدّهم شوكة، وأكثرهم قتلًا وقتالًا للمسلمين في زمانه، استحوذ -لعنه الله- على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرًا، واستمرت في يده قهرًا، وأضيفت إلى مملكة الروم قَدَرًا). وابن كثير يردّ السبب إلى تقصير المسلمين في ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من العام والخاص، وكثرة الرفض والتشيّع، واختلاف أهل السنة فيما بينهم، فلهذا أديل عليهم. يورد ابن كثير نفسه؛ أن نقفور ورد حلب في مئتي ألف مقاتل بغتةً في سنة 351هـ، ثم فتحها عنوة، وقتل وخرّب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب، وكان لا يدخل بلدًا إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والأطفال، وجعل جامعها إسطبلًا لخيوله، وكسر منبرها.
* يستهل الطاغية قصيدته المصنوعة له بقوله:
من الملك الطهر المسيحي مالك
إلى خلف الأملاك من آل هاشم
إلى الملك الفضل المطيع أخي العلا
ومن يرتجى للمعضلات العظائم
أما سمعت أذناك ما أنا صانع
ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم
فإن تك عمّا قد تقلدت نائمًا
فإني عما همّني غير نائم
* تتكون القصيدة الملعونة من 70 بيتًا فصّلها المحقق على خمسة أجزاء. الجزء الأول من البيت الأول إلى البيت رقم 31؛ تذكر فتوحاته- كما سماها- ومن سبقه من ملوك الروم من الثغور والبلدان الإسلامية، ووصف ما أصابها وأهلها من قتل وتشريد وتخريب وتدمير، وعدّد ثغورها المنكوبة. فها هو يقول- بعد الأبيات الاستهلالية الأربعة؛ مخاطبًا الخليفة (المطيع 343هـ - 363هـ):
ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم
وضعفكم إلا رسوم المعالم
فتحنا الثغور الأرمنية كلها
بفتيان صدق كالليوث الضراغم
ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها
وتبلغ منها قضمها للشكائم
إلى كل ثغر بالجزيرة آهل
إلى جند قنسرينكم فالعواصم
* وبعد أن وصف حالة الضعف التي تعم الممالك المستهدفة من قبله؛ ها هو يصف جيشه وقوته، ويصور أفراده بالليوث الضراغم، ويصف حالة الهجوم التي هو عليها، وأخذ يعدد أسماء الثغور والبلدان التي غزاها والتي يستهدفها في طريقه لإسقاط خلافة المسلمين:
ملطية مع سميساط من بعد كركر
وفي البحر أضعاف الفتوح النواخم
وبالحدث الحمراء جالت عساكري
وكيسوم بعد الجعفري للمعالم
وكما قد ذللنا من أعزة أهلها
فصاروا لنا من بين عبد وخادم
وسد سروج إذ خربنا بجمعنا
لنا رتبة تعلو على كل قائم
وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا
بمنديل مولى علا عن وصف آدمي
وصبح رأس العين منا بطارق
ببيض غزوناها بضرب الجماجم
ودارا وميا فارقين وأزرنا
أذقناهم بالخيل طعم العلاقم
واقريطش فقد جازت إليها مراكبي
على ظهر بحر مزبد متلاطم
فحزتهم أسرى وسقيت نساؤهم
ذوات الشعور المسبلات النواعم
هناك فتحنا عين زربة عنوة
نعم وأبدنا كل طاغ وظالم
إلى حلب حتى استبحنا حريمها
وهدم منها سورها كل هادم
أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم
وصبيانهم مثل المماليك خادم
وقد فرّ عنها سيف دولة دينكم
وناصركم منا على رغم راغم
وملنا على طرسوس ميلة حازم
أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم
فكم ذات عز وجل حمرة علوية
منعمة الأطراف ريّا المعاصم
سبينا فسقنا خاضعات حواسرًا
بغير مهور لا ولا حكم حاكم
وكم من قتيل قد تركنا مجندلًا
يصب دمًا بين اللها واللهازم
وكم وقعة في الدرب أفنت كماتكم
وسقناهم قسرًا كوسق البهائم
وملنا على أرياحكم وحريمها
مدوخة تحت العجاج السواهم
فأهوت أعاليها وبدل رسمها
من الأنس وحشا بعد بيض نواعم
إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى
وأتبعه في الربع نوح الحمائم
وإنطاك لم تبعد علي وإنني
سأفتحها يوما بهتك المحارم
ومسكن آبائي دمشق فإنني
سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي
* وبعد التهديد الشديد باقتحام دمشق ملك أجداده كما زعم، أخذ يهدد بغزو مصر عنوة، ويهدد كافورًا حاكمها فيقول:
ومصر سأفتحها بسيفي عنوة
وآخذ أموالًا بها وبهائمي
وأجزي كافورًا بما يستحقه
بشط وقراض وقصّ محاجم
* ثم يطلق التهديد لسلالة آل حمدان العربية التي حكمت في العراق والشام، ويقول لهم؛ بأنه ليس أمامهم إلا الهرب من أمام جيوشه التي تشبه الغمائم أو التسليم. يقول:
ألا شمّروا يا أهل حمدان شمروا
أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم
فإن تهربوا تنجوا كرامًا وتسلموا
من الملك الصادي بقتل المسالم
* بعد هذه الجزئية الطويلة من القصيدة الملعونة؛ نأتي في الجزء الثالث من المقال إن شاء الله؛ إلى أبيات أخرى، فيها من السخرية والشماتة ما الله به عالم. ثم نتساءل: هل وقف علماء وشعراء المسلمين موقف المتفرج من هذه المهزلة..؟ موعدنا الأسبوع القادم.