يظهر هناك اهتمام كبير من الجهات الحكومية وغيرها بتدقيق مستنداتها - بمختلف أنواعها- وتحريرها، ورعايتها، من الناحية اللغوية والصياغية، وتبذل جهودًا كبيرة في ذلك، ومن ذلك تخصيص إدارات، أو أقسام، أو أشخاص لهذه المهمات، وغالبًا ما ترتبط بالإدارات العليا في الجهة، وهذا من أوجه الجودة والإتقان الذي تطمح إليه هذه الجهات.
سيكون الحديث هنا عن المحرر للغة العربية، الذي يعمل في الجهات الرسمية، ماذا يجب أن يكون، وكيف يهيأ، وماذا تريد منه تلك الجهات، وكيف يغمر أي فجوة بينهما؟
أولًا، يجب أن تتملك المحرر اللغوي الثقة الكاملة في دوره، والإيمان الحقيقي في أثره، وأن ما يقدمه هو شيء محوري، لا تستغني عنه أي جهة تعتني بالجودة وأسسها، وتستهدف الإتقان في العمل، وأن هذه جميعها من العوامل التي تسهم في تحقيق رؤية المملكة 2030، القائمة على الإتقان والحوكمة والجودة، ولذلك يلحظ زيادة الحاجة إلى التدقيق اللغوي مؤخرًا أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يعكس استشعار المسؤولين لخطره وأهميته.
تهيئة المحرر اللغوي
على المحرر اللغوي أن يكون حلقة ضمن سلسلة مترابطة، لا أن يغرد وحده، فهو متخصص في اللغة، وعليه أن يدرك أن اللغة مرنة، حية، بل عليه أن يسعى إلى جعلها أكثر حيوية، ومن ذلك الآتي:
• الاعتناء بالأسس النحوية واللغوية المتفق عليها، وحسب (الأسس كافية).
• إذا كانت هناك صياغة معتادة، ولكنها تصنف ضعيفة، ولها تخريج مسوغ من لغوي موثوق، كعالم لغوي أو أستاذ جامعي متخصص، أو جهة معروفة، كمجمع لغوي أو مؤسسة ثقافية، فلا ينازع في ذلك، بل يأخذ بالمستعمل، فهذا هو ديدن اللغة، وعليه أن يتقبل ذلك.
• الاطلاع الواسع جدًا على كتب التصحيح اللغوي، بمختلف أزمنتها وموضوعاته، ولكن عليه الاستئناس بها فقط، وعدم جعلها مرجعًا أساسًا، ولا الاعتداد بكل ما يرد فيها، فغالب ما يرد فيها يعبر عن رأي معدها وتوجهه، فإن كان معدها من المتشددين تجدها كثيرة التخطئة، وإن كان من المتخففين، فيكثر فيها تصحيح ما يظهر خطؤه، وتقوية الآراء الشاذة.
• أن يهيئ المحرر قائمة من المستشارين الموثوق بهم، بحيث يرجع إليهم حال حاجته، ولا يستهن بذلك أبدًا.
• التعرف على أنواع المستندات المختلفة في الجهة التي يعمل بها، وأن يعمل على المقارنة فيما بينها، ومقارنتها بالمستندات من الجهات الأخرى، مثل الخطابات التي تصدر من جهته، والفرق بينها وبين التقارير، أو العروض، وكذلك بين الخطابات الصادرة من جهته والخطابات الصادرة من الجهات الأخرى المرسلة إلى جهته. وهذه وسيلة مهمة جدًا لرفع مستوى ذائقته وقدرته الكتابية ووعيه اللغوي والأسلوبي.
ماذا تريد الجهات من المحرر اللغوي؟
• التصحيح اللغوي بما يتفق مع أسس النحو هو أدنى حد مقبول. ومما لا يسع أي مدقق لغوي جهله (وهذا يمثل الصورة الأولية لما يصدر عنها من مكتوب)، وحد هذا المستوى هو الأخطاء التي يمكن استدراكها من قبل العارف لأدنى مستويات اللغة نحواً وإملاءً (أي غير المتخصص).
• تريد منه كذلك التفطن للأخطاء الطباعية، وسلامة المستند شكليًا، وربما موضوعيًا في بعض الأحيان، حين يكون منطق النص غير سليم، فيبدي رأيه فيه.
• مستوى آخر، أكثر عمقًا، يتعلق بالصياغة، التي لها معانٍ كثيرة، من أهمها ترابط الكلمات واتساقها وتعبيرها الدقيق عن المقصود بما لا يخالف اللغة ولا السائد في بيئة العمل... وعليه مراعاة ما يتعلق بوضوح المعنى للجملة أو الكلمة، ودقة التعبير عن المراد.
• تحري الأسلوب الرسمي المتبع، الذي اعتاد عليه الناس في أروقة الحكومة والجهات الرسمية وشبهها، وهذا هو المستوى الأصعب، الذي يلزم متخصص التحرير في اللغة العربية التنبه له، وغالبًا ما تقع هناك الإشكالات المتعلقة بالاعتداد بنمط من الكتابة التقليدية، والأسلوب الرسمي، إلا أنه لا يتسق مع السلامة النحوية، أو الاستعمالات اللغوية المعتبرة في المصادر العربية الأصيلة، فيقع المحرر مضطربًا بين مراعاة أمرين، قواعد اللغة، والأسلوب المعتبر، فهو إن صحح ذلك الأسلوب استنادًا إلى قواعد اللغة، لم يلق قبولًا جيدًا من بعض المنتجين أو المستهدَفين في هذه الكتابات، فيظهر الأسلوب غريبًا عليهم! وهنا يأتي أشد مراحل الحرج في العلاقة بين المحرر والجهات الأخرى.
• أفضل طريقة لمعالجة ذلك هو من خلال محاكاة ما يكتب، وتهذيبه شيئًا فشيئًا، وليس من خلال التغيير الكامل، أو الإنكار الشديد لما يشك في صحته.
• ومن وسائل معالجته كذلك العناية بالنماذج الموحدة التي تميل إليها كثير من الجهات، ومحاولة رفع مستواها وأسلوبها بما يتواءم والقواعد العربية الأساسية.
ماذا على الجامعات لتهيئة المحرر اللغوي؟
• على الجامعات أن تعتني بوضع مناهج تخدم التحرير اللغوي الواقعي، ويكون ذلك بالاستعانة بالمدققين والمراجعين اللغويين الفعليين، الذين مارسوا العمل في جهات معتبرة، لأنهم حينها يستحضرون خبرتهم وتجاربهم ويعبرون عما لمسوه:
• كيف يتسنى للجامعات عمل ذلك:
o من خلال عرض خدمات الإعارة (والإعارة الجزئية) لأعضاء هيئة التدريس في الجهات المختلفة، وتسهيل هذا الإجراء، والطلب من الأستاذ المعار أن يقدم ورقة بعد انتهاء إعارته يفصل فيها تجربته من الناحية العلمية، وفي ذلك تدريب لعضو هيئة التدريس، ووضعه في مكان يستطيع فيه تطبيق ما يدرسه نظريًا، حتى يتمكن لاحقًا من تهيئة الطلاب لذلك.
o كثير من الجهات خاصة بعد وعيها بأهمية التحرير اللغوي وظفت عددًا كبيرًا من اللغويين، إلا أن هؤلاء يفتقدون إلى التدريب المناسب، وأفضل من سيقدم لهم التدريب هم أساتذة الجامعات –خاصة من الناحية العلمية- وهم من سيقوم بتهيئة إدارات التحرير وتجهيزها للتحول إلى مستوى أكثر علمية ودقة.
o وضع مناهج تعالج الموضوعات الفعلية، معتمدة على نماذج واقعية، وعدم الاكتفاء بما لدى المؤلفات الموجودة في المكتبات، التي تعنون بالكتابة الرسمية - الكتابة الإدارية...
o تدريب الطلاب في الجهات الرسمية، وعقد اتفاقيات معها.
o تقديم مناهج ودورات لغوية للطلاب في مختلف التخصصات.
وأخيرًا، أوجز ما سبق بأن التحرير اللغوي من المهمات الكبيرة، التي تستحق مزيدًا من الاهتمام من الجهات الأكاديمية، وتعزيز قدرات المتخصصين فيه بما يخدم اللغة العربية أولًا، ويخدم المجتمع بتقديم مستندات سليمة في لغتها، ومفهومة في دلالتها.
** **
- د. حازم بن فهد السند