قالَ أبو هلالٍ العسكريُّ: «وأنا أقولُ الصمتُ يورثُ الحُبْسَةَ وَالحَصَرَ، وَإِنَّ الِّلِسَانَ كُلَّمَا قُلِّبَ وَأُدِيرَ بِالقَولِ كَانَ أَطْلَقَ لَهُ.
أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: نَاطَقْتُ فَتًى مِنْ بِعْضِ أَهْلِ القُرَى فَوَجَدتُهُ ذَلِيقَ الِّلِسَانَ! فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الذَّلَاقَة؟ قَالَ: كُنتُ أَعْمِدُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى خَمْسِينَ وَرَقَةً مِنْ كُتُبِ الجَاحِظِ فَأَقْرَأُها بِرَفْعِ صَوْتٍ فَلَمْ أَجْرِ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً حَتَّى صِرْتُ إِلَى مَا تَرَى».
وإذا نظرنا بما يَحُفُّ هذه القِصّة وجدنا أنّ كلام أبي هلال العسكري يندرجُ في طريق الدّعاية لمذهبه ، وبرواية قصّة الفتى الذي صار ذليق اللسان لقراءته كتبَ الجاحظ، يظهرُ جليًّا أنّ ارتباط أبي هلال بالجاحظ لما بينهما من التَّوَافُقِ في الاعتزال، وذلك أنّ أبا هلال معتزليّ والجاحظ قبله معتزليّ.
وعند التّأمُّلِ في المؤلفات العربية، ومناهج تأليف مؤلِّفيها يظهر أنْ ليست ذلاقة اللسان مقصورةً على كتب الجاحظ، بل إنّ في قراءة الشعرِ ما يُطلق اللسان ويفتّق الأذهان، وفي قراءة كتب الشافعي رحمه الله ما هو أدقُّ وأحلى بشهادة الجاحظ للإمام الشافعي.
وتتحقق الذَّلاقة الأدبية بقراءة كتب الأدب شعرًا أو نثرًا، وقراءة كتب الأخبار؛ لاشتمالها عليهما، ولفضيلة ما قامت عليه بالاختيار والانتقاء؛ إذ إنَّك واجدٌ حينها فضلا عن الكلام منهجًا ذوقيًّا ينبُعُ من مزاج المؤلِّف، وقديمًا قيل: اختيار الرجل قِطعةٌ من عقله، وكذلك تتحقق الذَّلاقةُ الأدبية بحفظ مقامات الهمذاني والحريريّ؛ لعنايتهما بالمفردة في تروية الطبيعة الأدبيّة، ولأنّ الحفظ لا يحصلُ إلا بتكرار ورفعِ صوت.
وفوق ذلك كلِّه قراءة القرآن حفظًا وإدامةَ نظرٍ بجعلِ قراءته وِردًا يوميًّا، وخيرُ الوردِ الذي يُضاعِفُ الحفظ، وينهضُ بالنَّفسِ، ويعزِّزُ أركانه وِردُ الأيامِ السبعة.
ولا يخلي المتمرِّنُ في الأدب يومه من قراءة حديث الرسول ؛ لأنَّ حديثه خيرٌ كلام العرب، وآثارُ أصحابه أفضلُ ما نطقته ألسنةُ العرب؛ لاجتماع الهدى بالقرآن والبيان النبويِّ في نفوسهم، فصاروا فضلا عمَّا عليه طبيعتهم الكلاميّة باللسان العربيِّ أعلم وأحكم وأسلم من غيرهم في فهمِ الدُّنيا وعلم الآخرة.
وهذان الطريقان: القرآن والسنة طريقان مسلوكان عند كلِّ من يرومُ امتلاك ناصية الأدب، ومَنْ تركهما نقص أَدَبُهُ بقدرِ ابتعاده عنهما، ولكَ في ابن الأثير صاحب كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) قدوة؛ إذ إنّه أخبر عن حاله في تمرُّنه الأدبي مع أحاديث رسول الله فقال: «وَكُنْتُ جَرَّدتُ مِنْ الأَخْبَارِ النَّبويَّة كِتَابًا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلاثَةِ آلافِ خَبَرٍ ،كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي الاستِعْمَالِ، وَمَا زِلْتُ أُوَاظِبُ عَلَى مُطَالَعَتِهِ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَكُنْتُ أُنْهِي مُطَالَعَتَهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً ، حَتَّى دَارَ عَلَى نَاظِرِي وَخَاطِرِي مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائةَةِ مَرَّةٍ، وَصَارَ مَحْفُوظًا لا يَشِذُّ عَنِّي مِنْهُ شَيءٌ».
والمهمُّ في كل ما سبق أنّ الذي يقرأ بلا صوتٍ لنْ يُدرِك الذَّلاقَة الأدبيّة، وستكون قراءتُه عدمًا في نفسه؛ لأنّ للكلمات مذاقًا في اللسان وحلاوة في الحلق لا تُدرَكُ إلا حينَ رفع الصوت بها.
** **
د. عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي - جامعة الحدود الشمالية - السعودية
سبتُ رفحاء، 21 من جمادى الآخرة، لعام 1444هـ