فهد عبدالعزيز الكليب
من السمات والخصائص الأساسية في منظومة البيت السعودي الحاكم البر والأدب الجم، والاحترام المتبادل، والتقدير المتوارث، والتراحم القائم بين أعضاء البيت السعودي الحاكم من عترة أسرة آل سعود الكرام، من كبيرهم إلى صغيرهم، نهج دأب عليه الملك المؤسس عبدالعزيز – طيب الله ثراه - وتجلاه بأبلغ صور البر والتراحم وخفض الجناح لوالديه الإمام عبدالرحمن ووالدته الأميرة سارة بنت أحمد السديري طوال حياتهما، وتوارثه الأبناء أباً عن جد، إلى الأبناء والأحفاد وإليكم بعضٌ من المواقف التي تمثلها الملك عبدالعزيز في بره بوالده الإمام ليؤسس قاعدة الجسد الواحد للبيت السعودي الحاكم والذي نراه مطبقًا ومتمثلًا حتى يومنا الحاضر:
1- في عام 1319هـ عندما استرد الملك عبدالعزيز الرياض تنازل لوالده الإمام عبدالرحمن بالحكم، واعتبر نفسه جنديًّا في خدمته، وطوع أمره، ورهن إشارته إلا أن الإمام ولما يعرفه من همة ولده عبدالعزيز وصلاحه وعقله رفض، وبعد تدخل من العلماء وذوي الرأي والمشورة قبل على مضض.
2- كان الملك عبدالعزيز يقبل رأس ويد والديه كلما دخل عليهما أو رآهما، ولا يكاد يمرُّ يوم إلا ويزورهما، ويتلمس مواطن رضاهما، حتى أنه طلب من والده الإمام أن يسكن إلى جواره في قصر الحكم بعد ترميمه وبناء عدة منازل لعائلته، إلا أن والده اعتذر وأنه سيكتفي بقصره الذي سكنه عند عودته للرياض والمعروف بقصر (النفيسي)؛ حيث اتخذه قصرًا له بعد أن ملكه، وكان الملك عبدالعزيز يزورهما في قصرهما صباح كل يوم قبل مباشرته أعماله عندما يكون في مدينة الرياض، كما كان الإمام يزور ابنه في قصر الحكم بعد صلاة الجمعة ويتناول معه طعام الغداء.
3- كان من أدب الملك عبدالعزيز مع والده الإمام أنه لا يتقدم عليه الخُطى ولا يسبقه خطوة، ولا يقترب منه إلا إذا دعاه، فإن أومأ إليه بالجلوس جلس، وإن كلمه أجابه بانخفاض صوت، وقلة حركة، وإذا سكت نهض من ساعته قبل أن يتمكن به محله، يعرف حقوقه عليه ويتمثلها، وإن استدناه دنا خطىً ثلاثًا أو نحوها، ثم وقف خلفه أو إلى يمينه، ولا يجلس إلا إذا أذن له، فإن قعد قعد مقعيًّا أو جاثيًا ركبتيه، واستمع إليه وأصغى إلى كلامه ولا يقاطعه فإذا انتهى من كلامه أجابه بـ(سم، وأبشر، وتأمر، وأمرك نافذ يالإمام)، وكان رحمه الله يأخذ بيده فيقعده في محله، ثم يجلس دونه، ويحمل عصاه ولا يفلتها من يده حتى ينهض، وإذا ما جاء من سفر وطول غيبة عانقه عناقًا حارًّا ووله وقبّل رأسه ويده، وإذا طاعمه لا يبدأ قبله، ولا يطعم بعده إذا ما رفع يده عن الطعام، إذ كان لا يرى لنفسه مكانة أو منزلة دونه.
4- كان من احترامه لوالده الإمام لا يمكن أن يسمح لنفسه أن يمشي أو يسكن غرفة علوية ووالده في الغرفة التي أسفل منها، وقد أكد ذلك محمد أسد في كتابه: (الطريق إلى مكة) ونقل عنه قوله: (كيف أسمح لنفسي أو لغيري أن يسير فوق رأس أبى) وأشار فاليبي في كتابه: (قلب الجزيرة العربية) إلى أنه عند زيارته للرياض سنة 1336هـ لاحظ كيف كان الملك عبدالعزيز يجلس بحضرة والده، قائلًا: (وفى الحياة العامة عند مقابلة المواطنين كان الابن بحضرة أبيه يجلس في مكان منخفض).
وينقل لنا الملك سلمان - حفظه الله - في كتابه: (ملامح إنسانية من حياة الملك عبدالعزيز)، حيث يقول: (روى لي عبدالعزيز بن عبدالله بن ماضي - رحمه الله - أنه كان في مجلس خاص بالملك فيصل عندما كان نائبًا لوالده في الحجاز- وكان الحديث عن الملك عبدالعزيز، وقال له: كنا جلوسًا على الحبوس وهى: (مواضع للجلوس من الحجر) والملك عبدالعزيز كان جالسًا على الأرض، فاستنكر الملك فيصل ذلك، واندهش لذلك القول, فأوضح ابن ماضي ذلك قائلًا: (جئت مع والدي عبدالله بن ماضي أمير روضة سدير إلى الرياض للسلام على الإمام عبدالرحمن والملك عبدالعزيز وجلسنا على الحبوس التي وضعت في الديوانية لأجل جلوس الإمام بسبب الألم الذي في ركبتيه وعندما دخل الملك عبدالعزيز سلم على والده، وقبل يده، ثم جلس على الأرض في آخر المجلس احترامًا له، وهذا الذي أزال استغراب الملك فيصل).
5- لم يقبل الملك عبدالعزيز أن يطلق عليه لقب الإمام في حياة والده تأدبًا واحترامًا وتوقيرًا له، وكان يلقب بالسلطان إلى أن توفى الإمام عبدالرحمن سنة 1346هـ، ثم أصبح يلقب الملك عبدالعزيز بالإمام إلى جانب كونه ملكًا.
6- كان الملك عبدالعزيز في جميع رسائله إلى والده الإمام عبدالرحمن يكتب إليه بهذه المقدمة والديباجة: (إلى جناب الوالد: الأجل، الأمجد، الأفخم، حميد المكارم والشيم، سيدي الأعز، المكرم الإمام عبدالرحمن الفيصل)، وهذه صورة من صور الأدب الجم والاحترام الرفيع المتوارث الذي سنّه عبدالعزيز وتوارثه أبناؤه الملوك والأمراء من بعده وهذا أرفع درجات الأدب والسمو الأخلاقي.
7- من بر الملك عبدالعزيز بوالده كان يساعده كثيرًا على امتطاء صهوة جواده، فيرفع قدميه بنفسه مع وجود مرافقيه كما ذكر ذلك الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه: (صور من حياة عبدالعزيز)، ويذكر لنا عبدالحميد الخطيب في كتابه (الإمام العادل) ما شاهده حينما جاء الملك عبدالعزيز إلى الحرم واستقبل والده عند مدخل باب السلام وحمله لكبر سنه ودخل به إلى مصلاه، ولم يشأ أن يتولى ذلك غيره، وذكر أحمد حمدي الطاهر في كتابه: (الحجاز مهبط الوحي) أن أحد علماء مكة حدثه قائلًا: (كان الملك عبدالعزيز مع والده الإمام عبدالرحمن في الحج فطافا معًا، لكن الأب أدركه الإعياء في آخر أشواط الطواف، فحمله الملك عبدالعزيز ليتم بقية الشوط دون أن يترك ذلك لرجاله.
8- يروي فليبي أنه عندما ذهب والوفد الذي معه إلى الرياض، فاجتمع مع الإمام عبدالرحمن بكامل الوفد، وظل يتحدث معهم وهم يظنونه السلطان عبدالعزيز، فلما فرغ الإمام من حديثه قال لهم : حديثكم مع الابن عبدالعزيز الذي تقدم عندئذٍ حيث كان منزويًا في ركن الغرفة في انتظار الإذن من أبيه بمحادثة الوفد البريطاني.
9- كان أشد ما كان عليه بر الملك عبدالعزيز بوالده الإمام عبدالرحمن ووالدته الأميرة سارة وبقية زوجات والده عند خروجهم من الرياض رغم صعوبة التنقل والترحال ووعورة الصحراء حتى وصولهم للكويت وطوال إقامتهم بها، فكان الملك عبدالعزيز على الرغم من صغر سنه وفى ظل تلك الظروف الصعبة والقاسية إلا أنه كان رجلًا عن ألف رجل تزين بالصبر والجلد والخشونة، والشجاعة والجسارة فكان خير عون لوالده وأسرته إذ كان والده يعتمد عليه في كل شؤونه، وكان يرسله ويقوم بدور السفارة عنه لرؤساء القبائل وأمراء الأقاليم فكان طوع أمره ومحط أمله، ومعقد رجائه.
10- روى يوسف ياسين عن الوداع الأخير بين الملك عبدالعزيز وأبيه قبل سفر الملك للحجاز في أواخر سنة 1346هـ: (دخل الملك عبدالعزيز على أبيه الإمام عبدالرحمن ليودعه، فكان الابن يقبل يديه ويسأله هل أنت راضٍ عني؟ فيجيبه الإمام وهو جلد صبور: لاشك.. لاشك، فيعود عبدالعزيز مرة أخرى إلى يد أبيه ويقبلها ويعيد نفس السؤال: والدي: هل أنت راضٍ عني، فيجيب الوالد بنعم ليعلن رضاه التام عنه حتى شفي نفسه).
إن ذلك النهج تمثل في أبنائه من الملوك والأمراء في حميمية العلاقة والانسجام والترابط الأخوي والأسري، والبر والتراحم والاحترام، والأدب الجم، والذي قلّ أن نراه إلا في جسد البيت السعودي الحاكم، والذي تمثله واقعًا مشرفًا وبارزًا الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - مع والديه: الملك عبدالعزيز ووالدته الأميرة حصة الأحمد السديري، ومع إخوته الملوك والأمراء، وهو الأقرب برًّا وصلة، وبكل المواقف والمعاني والصور، التي أصلتها في نفسه والدته الأميرة حصة الأحمد السديري وفي وقت مبكر، وانعكس ذلك في دورة الاحترام المتوارث من الجد إلى الأبناء إلى الأحفاد تمثلها الملك عبدالعزيز مع والده الإمام عبدالرحمن، ووقفها الملك سلمان مع والده عبدالعزيز، ليثمنها الحفيد محمد بن سلمان مع والده الملك سلمان، وهي الصورة الطاغية والدالة على تواضع واحترام الابن لأبيه، والأخ لأخيه ليسطر أعضاء البيت السعودي الحاكم أكبر ملحمة أخلاقية في البر والأدب والتقدير والاحترام المتبادل.