علي الخزيم
قالوا إن شخصية عربية خليجية مرموقة كان برحلة استجمام شتوية بيوم بارد؛ وبطريقه شاهد رجلاً لا تكسوه سوى ملابس لا تقي شدة البرد، فأمر بالتوقف ومال إليه ثم خلع (بشته) الصوفي الثقيل وأهداه إليه وواساه وأخذ بخاطره تلطفاً ورأفة بحاله، فكان موقفاً رحيماً من إنسان عُرف بالعدل واللطف ولين الجانب، وكان درساً لمن حضر ومن تلقَّى الرواية الجميلة، هذا القدوة الشهم كان ولا زال يترسَّم خُطى الأوائل، وما دعا له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بتوجيه ربَّاني حكيم، لإتمام مكارم الأخلاق ومنها الرأفة بالفقراء وتتبع حاجاتهم وتوفيرها والحفاظ على كرامتهم دون منٍّ أو أذى، ولا غرابة بهذا إذا ما علمنا أن قدوة هذا الرجل الصالح وغيره من المسلمين هم - بعد رسول الهدى - الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، فقد كان الخليفة الراشد أبو بكر الصديق يتعهد العجائز وكبار السن والمقعدين ونحوهم ممن يشق عليهم أداء بعض الأعمال حتى أنه - رضي الله عنه - كان يحلب شياه مثل هؤلاء، وحين ولي الخلافة: قالت جارية لرفيقاتها: (الآن لا يحلُبُها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يُغيِّرني ما دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه)، ومثله عمر الفاروق وكان يتعاهد الأرامل ونحوهن فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل، وله رضي الله عنه بهذا الشأن قصص غاية بالعدل والتراحم والإحسان.
فما خاب ولا خسر من كان أولئك الكرام قدوته ونبراسه المضيء، وحين تُروى مثل هذه المواقف من الإيثار والتراحم والتواد وتفقد أحوال البؤساء والمُعوِزين من الأقارب والجيران والعامة من حولنا فإنما هي لِبَث روح التعاون والتآزر، واستنهاض همم القادرين على العطاء كل بمقدرته وسعته، فكل عمل صالح بهذا المسار رصيد من الخير يدَّخره المرء لنفسه ليوم لا ينفع فيه سوى هذا العمل إن وفقه الله سبحانه للقبول، و{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، وهو القائل جل شأنه بالآية 10 من سورة الحديد: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقوله بسورة سبأ الآية 39 {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وتحضرني القصة التالية وفيها من العِبر والمواقف ما يمكن أن يُقتدى به ويُحتذى: فقد حدث أن عُوقِبت تلميذات صغيرات نظير غيابهن عن الدراسة بيوم شتوي قارس، ذهبت والدتهن لمسؤولة المدرسة لشرح الأسباب والاعتذار، فكانت الدموع والتأثر من بعض المعلمات ممن سمعن الحوار ومما أوضحته الوالدة من قسوة ظروف معيشة أيتامها، وافتقارهن للملابس المناسبة للشتاء وللمدرسة، وجاءت ردة الفعل الإنسانية من المعلمات وغيرهن بالمدرسة على وقع وصدى إيضاحات الأم الحنون، وطبَّقن شعيرة إسلامية حسنة بستر عوز المرأة وأيتامها وتغطية احتياجاتهن، مع أسباب التدفئة، كل هذا دون أن تشعر الصغيرات، حيث تم الاتفاق مع والدتهن على حَبْك قصة سهلة تناسب عقول ومدارك أمثالهن لإقناعهن أنهن ووالدتهن بخير ويعشن كما تعيش سائر فتيات المدرسة، جَبَر الله سبحانه قلب كل من سعى بالخير وستر.