رمضان جريدي العنزي
سائق الحافلة رجل كبير اضطرته ظروف الحياة أن يعمل بهذه المهنة رغم متاعبها ومسؤولياتها الجسام، للتغلب على ظروف الحياة ومتطلباتها، كل يوم يوصل الطلبة من بيوتهم إلى مدارسهم ومن ثم العودة بهم لبيوتهم مرة أخرى، يقضي جزءاً كبيراً من النهار في هذه المهنة المتعبة حد الإرهاق، يحاول أن يحافظ على هذا الروتين الممل، يبوح لنفسه بالأفكار الإيجابية التي تبعد عنه التوتر والقلق، يحاول أن يقنع نفسه بأن الأمور ستكون بخير، حتى لا يشعر بالضيق والاشمئزاز والخلل، يبذل جهداً كبيراً ومضاعفاً للتأقلم مع قيادة الحافلة الصفراء، يتفقد الطلبة، يحصيهم عدداً وأسماءً، ومواقع بيوت، يرتب الطلبة الصغار على المقاعد، يتفقدهم واحداً واحداً، وينسق مع أولياء أمورهم، في أول يوم عمل له تعرض لمواقف محرجة، بسبب تصرفات غير مقصودة، لكنه يثق بنفسه كثيراً بأنه النموذج الأمثل القادر على تجاوز كل المصاعب والمحن، وجد نفسه منساقاً مع الظروف التي أجبرته أن يعيشها، مع خيوط الصباح الأولى وفي أول يوم عمل له، حين تمزقت غلالة الظلام الرقيقة عن وجه الشمس، التي أطلت من خلف الغيوم الداكنة، ليسفر عن الوجه الذهبي لها، ولتبعث الدفء في أوصاله الباردة، كانت الأحلام تمور في نفسه، ويرقص قلبه لها بين أضلعه، كانت الأحلام عنده مثل حقول القمح وقد نضجت سنابلها، وصارت كحسناء أخذت زينتها، وغمر عينيها الكحل الأسود بفرحة راقصة، وضع نظارته الشمسية على عينه، تفقد ملابسه ورتبها ليكون أنيقاً، كان يريد أن يوصل رسالة مفادها بأن أي آخر يراه بأنه شخص غير عادي، فالمناظر تعطي الناس دائماً انطباعاً بالأهمية، وتفرض عليهم لوناً من السلوك يشبع ما في النفس من العجب، أصبح صوت المحرك، وأنين الإطارات على الطرقات سمفونيته المفضلة، يمر بالعابرين، والعمارات التي تعانق بصره على طول الطرق التي يسلكها، يعتريه شعور غريب حينها، يود لو يملك عمارتين أو ثلاثاً، تصيبه دهشة الحلم، وأصل الواقع، تتغير تضاريس وجهه، يفرك عينه، ويعلم حينها بأنه يعيش حلم اليقظة المر، هو الحلم يشبه الأساطير، أو شجرة اللوز، أو قصيدة مساء، يحاول أن يكافح ظروف الحياة، حتى انطفاء النفس، يبلل زمانه بعبارة المواساة، مثل طائر يجوس الأمكنة، فالماضي عنده مضى، والمستقبل يختفي تحت أغطية سميكة، والحاضر مجرد حلم بائس، يسرد أحلامه، ليخرج من مقبرة الواقع، بعد أن تيقن أن لا جدوى مع خديعة النفس، الحياة مزرعة سنابلوهو طائرها، مأخوذ بنشوة الارتقاء، وحكايته كأنها رسالة غابت بعض حروفها من أثر الواقع المرير، هو في العتمة ليس سوى نيزك يتشظى بفعل التصادم ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الأسود والأبيض، ما بين الشيء واللاشيء، هو الحضور والغياب، في السؤال والجواب، علامة استفهام مذهلة، في أحشاء الزمن تبدو الأشياء عنده كأنها فقاعات لا تصدر أصواتاً ولا ضجيجاً، يشعل الثقاب لكي يوقد الحطب، ولكي يستمر الضياء، يبحث عن واقع يزيل عن كاهله هم السنين العجاف، عندما يسكن الليل، يستلقي على ساحل الذكريات العتيقة، وكيف كان يباغت الحباري حين تجول وقت الظهيرة الباردة، رائحة العشب الربيعي المزدان بـ(الديدحان) تسكب بالنفس روائح نافذة، وتجلي مغاير، مثل فراشة يلون حقل ذاكرته ويفتش عن بقايا أحلام ضائعة، يمضي بالحياة بزبد وكمد، يحاول أن يختزل الزمن، هو في الأديم أو السديم، وفي أول البوح وآخره، مستديم يعانق العنفوان، عاش الخيبة، وخض خضيضها، وحكى القصة من أولها لآخرها للذين لا يعونها، قال لهم بأنه مثل سنبلة ونخل وعريشة عنب، حتى انحنى ظهره ومال، في نفسه تقبع قصص وخواص وحكايات كثيرة، مبتلة بأنواع شتى وألوان متنافرة، وبقايا حلم لم يتحقق، تتكاثر الذكريات حوله كلما جن الليل، لم تزل في نفسه رائحة العتق، ومارد صغير، لم يسعفه الكبر، أن يكمل المشوار مع الحافلة سوى أيام قليلة، ثم تنحى عن العمل، هو الآن في المكان القصي يعيد قراءة الزمان الذي راح، وفق الأبجديات الذي يهوى ويرغب، البوح عنده صار ملاذاً للتنهد، كل يوم يتفحص دمه في الشرايين أن كانت تتدفق، يفتش عن صوت الـ(هجيني) لكي يأخذه نحو البعد القديم، ويمنحه تفاحة ناضجة، ويسنده صوت طروب، هي مجرات الحنين، وجهه، ووجه أمه الراحلة، واشتعالات الظهيرة، والغيم الثقيل، وأسراب القطاء حول الغدير، والربيع الذي يجيىء، وربما لا يجيىء.