للجزيرة العربية منذُ قديم الزمان، وبحكم موقعها الجغرافي بين القارات الثلاث، وإشرافها على العديد من الممرات المائية، ووجود العديد من الطرق التجارية التي تتخذ من أراضيها طريقاً أهميةً لا تخُطئها العين، ومن تلك الطرق التجارية التي كانت تعبر شبه الجزيرة العربية الطريق التجاري الذي كانت تسلكه رحلتا الشتاء والصيف، واللتان كانت تقوم بهما قريش فيما بين اليمن وبلاد الشام، وكذلك طريق البخور، وطريق الحرير. ولا ريب في أن الصلات بين الجزيرة العربية والصين ترجع إلى أقدم العصور وقد ارتبطت بطرق التجارة منذ أزمان سحيقة في القدم.
وطريق الحرير هو اسم جامع لخطوط القوافل المنقولة براً وبحراً من وإلى الصين في أقصى الشرق، مروراً بالقارة الآسيوية غرباً، وصولاً إلى قلب أوروبا. ولطريق الحرير أهمية تجارية واقتصادية وسياسية، ولعلنا أن نضع نبذة تاريخية يسيرة عن نشأة هذا الطريق وأهميته خصوصاً بعد عودة هذا الطريق إلى الوجود وقيام الصين بما أطلقت عليه بـ»مبادرة الحزام والطريق» عام 2013م. تعود بداية طريق الحرير إلى حكم سلالة هان في الصين قبل حوالي مئتي سنة قبل الميلاد، ويقال إن أحد حكام هذه السلالة (وو تي) قد أرسل أحد معاونيه سفيراً إلى بعض الممالك الوسطى والقصوى، وذلك لإيجاد رابطة ودية مع قبائل التتار، وقد زار أثناء سفره عدداً كبيراً من الممالك، وهذه السفارة كانت هي البداية لجعل هذا الطريق حلقة الوصل بين الشرق والغرب، واتصال الصين بالعديد من الدول والممالك عبر هذا الطريق، ومنذ ذلك الحين كانت القوافل التجارية تسير غرباً من الصين وشرقاً من العراق.... وأُعجب الإمبراطور بكثرة التفاصيل التي قدمها مبعوثه، وبدقة تقاريره، فأرسله في بعثة أخرى لزيارة شعوب عدة مجاورة للصين، وهكذا شُق في عهد هذا الحاكم أول الطرق الممتدة من الصين حتى آسيا الوسطى.
ويبدو أن اهتمام الصينيين منذ قديم الزمن بالحرير وتجارته، كانت أهم الدوافع لديهم للبحث عن هذا الطريق التجاري، والصين احتكرت سر إنتاج الحرير، وأبقته سراً آلاف السنين.
كان طريق الحرير ناقلاً للعديد من السلع التجارية، مثل الأحجار الكريمة والحرير والأواني الخزفية، كما كان كذلك ممراً للتبادلات الاقتصاد والسياسة، وانتشرت الأديان والعادات والتقاليد الشعبية والثقافة والأفكار من خلاله.
يقول أشرف أبو اليزيد مؤلف كتاب طريق الحرير والذي قام بزيارة ميدانية لمعالم الطريق عام 2008م، ص16»، وقد كنت أظن أن طريق الحرير يمر بعشرين أو ثلاثين مدينة، فإذا بي أتخطى في عد المدن إلى أكثر من 160 مقصداً لطريق الحرير، سواءً كانت تلك المقاصد مدناً سادت ثم بادت، أو بقاعاً غيرت أسماءها ولغاتها، وتعاقب عليها الملوك مثلما تبدلت بها الأديان».
حمل طريق الحرير أسماء كثيرة، مثل «طريق اليشم» و»طريق الأحجار الكريمة» و»طريق البوذية» و»طريق الفخار والخزف» وغيرها، ولاحقاً أطلق عليه العالم الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشهوفن 1877م «طريق الحرير» لأول مرة، ثم استخدمت هذه التسمية حتى اليوم.
ويبدو أن الصين بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق وإحياء طريق الحرير بمساريه البري والبحري لن تكتفي بإحياء الطريق التجاري فقط! فقد شملت هذه المبادرة أبعاداً أخرى مثل طريق الحرير الصحي وطريق الحرير الفضائي وطريق الحرير السيبراني، فوفقاً لهذه المبادرة فإن انطلاق المبادرة بمسارين بحرى وبرى كخطوة رئيسة لإعادة إحياء المسار القديم، لا يعني التوقف عن حدود هذين المسارين فحسب بل من المهم الاستفادة من التطورات الجارية والتحولات التي شهدها العالم في إطار التقدم التكنولوجي والصعود الفضائي وغيرها لاستكمال أبعاد مبادرة الحزام والطريق من خلال التركيز على البعد الصحي في تلك المبادرة عبر ما أطلقت عليه طريق الحرير الصحي. ولعلنا أن نتطرق بشيء من التفصيل عن طريق الحرير الصحي خصوصاً مع انحسار جائحة كورونا.
فكرة طريق الحرير الصحي: هي فكرة سبقت جائحة كورونا الوبائية، حيث لم تكن فكرة طريق الحرير الصحي نتاجًا للأزمة الصحية التي ألمت بالعالم نتيجة جائحة فيروس كوفيد-19، بل تعود بدايتها إلى عام 2016م حينما ألقى الرئيس الصيني خطاباً أمام برلمان أوزبكستان في الثاني والعشرين من يونيو عام 2016، حيث طالب فيه بالتركيز على تعميق التعاون في العلاج الطبي والرعاية الصحية وتعزيز التعاون المتبادل والمنفعة في مجالات نشر المعلومات حول حالات الأوبئة والوقاية من الأمراض والسيطرة عليها والإنقاذ الطبي والطب التقليدي والأدوية التقليدية، وبناء طريق الحرير الصحي بصورة مشتركة. وفي أوائل عام 2017 وتحديدًا في 18 يناير من العام ذاته، أطلق الرئيس الصيني خلال زيارته لجنيف تلك المبادرة، وقد تم في أعقابها توقيع مذكرة تفاهم مع منظمة الصحة العالمية في أغسطس من العام ذاته، تضمنت التزام الصين ببناء «طريق الحرير الصحي» الذي يهدف إلى تحسين الصحة العامة في البلدان الواقعة على طول مبادرة الحزام والطريق. وتضمنت هذه المذكرة العمل على تعزيز التبادل والتشاور في المجال الصحي للدول الواقعة على طول طريق الحرير، وتعزيز التعاون في الوقاية من الأوبئة والأمراض، وبعد ذلك حرصت الصين على المضي قُدماً في تدشين هذه المبادرة باستضافتها في بكين منتدى مبادرة الحزام والطريق للتعاون الصحي.
وبعد وقوع جائحة كورونا حاولت الدبلوماسية الصينية تبني سياسية هدفت من خلالها للحد من تداعيات تلك الأزمة على أوضاعها الداخلية ومكانتها الدولية، منها تقديم المساعدات الطبية لمحيطها الجغرافي والتنسيق في المنتديات العالمية حيث لعبت الصين دوراً تنسيقياً في المنتديات متعددة الأطراف لتدافع عن استجابة الصين الدولية لفيروس كوفيد-19، وفي السياق ذاته حرصت الصين على أن يكون لها ممثلون يشاركون في الاجتماعات التي عقدتها منظمة الآسيان، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الإفريقي بشأن البحث في كيفية مواجهة تلك الجائحة للتأكيد على موقفها الداعم لكل الجهود المبذولة في هذا الخصوص، كما أطلقت الصين حملة دبلوماسية عامة، تستهدف الرد على الاتهامات عن مسؤولية الصين عن تفشى الجائحة.
وبعد انتهاء جائحة كورونا إلي حدٍ كبير لا يزال طريق الحرير الصحي يواجه بعض التحديات لاستمراره مثل: صعوبة الفصل بين طريق الحرير الصحي والمبادرة الشاملة المعروفة بالحزام والطريق، وكذلك صعوبة تتعلق بالصورة الذهنية التي تشكلت لدى العديد من الدول حول مسؤوليه الصين عن انتشار الوباء، إضافة لاختلاف وتباين الأنظمة والإمكانات الصحية بين الدول الواقعة على طريق الحرير الصحي، مما يصعب وضع سياسة صحية ملائمة لكل الأطراف.
وإذا ما استطاعت الصين التغلب على هذه العقبات فسوف تكون هذه المبادرة (طريق الحرير الصحي) إنجازاً كبيراً يضيف للمبادرة الأم (الحزام والطريق) رافداً وذراعاً قويةً للنجاح.
هذا الطريق الصحي يرافقه طُرق أخرى كما ذكرنا سابقاً (طريق الحرير الفضائي، طريق الحرير السيبراني أو المعلوماتي، وهذا البرنامج هو أحد البرامج التي ستتعاون المملكة مع الصين في تنفيذها مستقبلاً، وتحتاج لمقال مستقل بإذن الله.
طريق الحرير ورؤية المملكة 2030
قامت العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والصين في عام 1990م، وكان الجانب الاقتصادي بين البلدين يمثل أهمية كبرى، ثم بعد ظهور مبادرة (الحزام والطريق) من أهم أهدافها تعزيز وتنمية الجانب الاقتصادي بين قارات العالم، وهنا تبرز أهمية الموقع الإستراتيجي للمملكة العربية السعودية بحكم موقعها الجغرافي المميز بين قارات العالم الثلاث، وهذا ما ينسجم ويتوافق مع رؤية المملكة 2030 والتي تهتم بالاستفادة من الموقع المميز للمملكة، حيث جاء في رؤية المملكة 2030 ما نصه «يقع وطننا في ملتقى أهم طرق التجارة العالمية، ومن هذا المنطلق، سنستغلّ موقعنا الجغرافي المتفرد في زيادة تدفق التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وتعظيم مكاسبنا الاقتصادية من ذلك، كما سنقوم بإبرام شراكات تجارية جديدة من أجل تعزيز قوتنا الاقتصادية».
وتقيم المملكة والصين علاقات سياسية واقتصادية مميزة، ويتبادل المسؤولون رفيعو المستوى الزيارات، بما في ذلك الزيارات الرسمية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- إلى الصين، والزيارات الرسمية لرؤساء الوزراء الصينيين إلى المملكة العربية السعودية، وكان آخر هذه الزيارات هي الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ للمملكة العربية السعودية في 7 سبتمبر 2022 م واستمرت ثلاثة أيام، حيث وصل إلى الرياض لحضور القمة الصينية- العربية الأولى وقمة مجلس التعاون الصيني الخليجي، والقيام بزيارة المملكة.
وتعمل المملكة والصين على التعاون الثنائي في مجالات مثل الطاقة والتجارة والاستثمار والقدرات الصناعية وبناء البنية التحتية، ولتعزيز آفاق هذا التعاون بين الدولتين تم تأسيس «اللجنة المشتركة السعودية الصينية في عام 2016م» وتوّج الاجتماع الأول للجنة السعودية - الصينية المشتركة رفيعة المستوى، الذي عقد في العاصمة بكين بتاريخ 30 أغسطس 2016م، بتوقيع جملة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والبرامج التنموية والاقتصادية والتجارية. ورأس الاجتماع من الجانب السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد، ومن الجانب الصيني نائب رئيس الوزراء الصيني تشانغ قاو لي.
ومن ضمن الاتفاقيات السبعة عشر التي تم توقيعها: برنامج تنفيذي لتنمية طريق الحرير المعلوماتي، واستعرض الاجتماع الرؤية الاقتصادية والتنموية للمملكة رؤية السعودية 2030 ومبادرة «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير والمشاريع العملاقة»، التي تنوي السعودية تنفيذها ومشاركة الشركات والبنوك الصينية فيها وسبل التعاون في الفرص الاستثمارية الأخرى.
ومن ضمن مهام هذه اللجنة أنها تعمل على الدور المحوري للسعودية مع الصين في إحياء طريق الحرير في ضوء رؤية 2030والتنسيق والتعاون في هذا المجال.
ختاماً لا يخفى على المتتبع لتاريخ طريق الحرير بشقيه البري والبحري ما يمثله من أهمية سياسية واقتصادية، وفي عودة هذا الطريق للوجود مع إحياء الصين له بمبادرة الحزام والطريق، نجد بالمقابل الرؤية العملاقة للمملكة (رؤية 2030) التي أطلقها سمو ولي العهد والتي تحمل في ثناياها العديد من المشاريع التنموية الواعدة، وتتقاطع رؤيتنا مع انطلاق مبادرة الحزام والطريق في العديد من الفرص المستقبلية لتعزيز الشراكة القائمة بين البلدين، والسعي لتحقيق الأهداف التي يطمح لها البلدان في مختلف المجالات.
***
* محمد بن أحمد الشهري - ماجستير تاريخ