في منطقة يخالط أنفاسك فيها أنفاس التاريخ، وبعد أن تجعل خلفك شارع المعز الفاطمي بآثاره وعبقه التاريخي، وعلى مسافة غير بعيدة من مجموعة السلطان المملوكي قنصوه الغوري المهيبة، وفي الساحة المواجهة للجامع الأزهر، تقبع «تَكِيَّة أبو الدهب»، التي يستوطنها متحف الأديب الراحل الكبير «نجيب محفوظ (1911-2006م). أول أديب عربي حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1987م.
في منطقة قديمة لا زالت تحتفظ بطابعها القديم، وهو ما يعطي للمتحف طابعه الخاص، فهو ليس متحفاً تقليدياً مخصصاً لعرض الآثار أو الأعمال الفنية، وإن كان من معروضاته مقتنيات للأديب الراحل، لكن اختياره في هذه المنطقة تحديداً مكاناً للمتحف ليكون بالقرب من المنزل الذي ولد فيه نجيب محفوظ، في حي الجمالية، حيث الأجواء الشعبية التي تتفق تاريخياً وجغرافياً وما جاء في الكثير من الأعمال الإبداعية للأديب الراحل من أعماله الروائية ومجموعاته القصصية واستلهم منها شخصياتها وأبطالها، مثل: «بين القصرين، وقصر الشوق، وزقاق المدق، والسكرية وخان الخليلي»، والتي جسَّدت هذه الأماكن وسجلت الحياة فيها ووثقتها في بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه. ولهذا فلا بأس أن يكون مدخل المتحف في حارة ضيقة، وفي منطقة شعبية لا زالت تمارس حياتها الشعبية التقليدية فإن ذلك أدعى للولوج إلى عالم نجيب محفوظ الروائي الذي نقله إلى العالمية من خلال أعماله، ولا يحتاج المدخل أن يكون له حديقة متحفية، كما لا يحتاج المبنى المتحفي أن يكون بناءً عصرياً حديثاً من الزجاج أو ذا تصميم غير عادي.
والتِّكيّة، كلمة تركية تعني الاتكاء أو الاستناد إلى شيء للراحة والاسترخاء، فهي مكان الراحة والاعتكاف، وهي تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بنفس وظيفة الخانقاه أو الزاوية التي كانت منتشرة في العهد المملوكي في مصر، أي أنها كانت مخصصة لإقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة، وتقديم المساعدة والطعام للفقراء وعابري السبيل، إضافة إلى تطبيب المرضى وعلاجهم وهو الدور الذي كانت تقوم به البيمارستانات في العصر الأيوبي والمملوكي، ففي بداية العصر العثماني أهمل أمر البيمارستانات وأضيفت مهمتها إلى التكايا. والتَّكيّة في تصميمها المعماري عبارة عن صحن مكشوف يأخذ الشكل المربع تحيط به من الجوانب الأربعة أربع ظلل، كل ظلة مكونة من رواق واحد، وخلف كل رواق توجد حجرات الصوفية السكنية، وتتكون من طابق واحد أو أكثر.
وهذه التَّكِيَّة التي صارت مركزاً ومتحفاً للأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ كانت جزءاً من مجموعة الأمير المملوك محمد بك أبو الدهب الأثرية، التي تضم مسجداً ومدرسة وتكيَّة، وتقع بجوار جامع الأزهر، وبدأ في إنشائها عام 1187هـ (1704م)؛ لتكون مدرسة تساعد الأزهر في رسالته العلمية.
ومحمد بك أبو الدهب كان مملوكاً جركسياً، اشتراه علي بك الكبير والي مصر في أوائل ستينيات القرن الـ18، وأصبح قائداً للقوات المصرية بعد تفرد علي بك بالسلطة في مصر، ثم تمرد على سيده علي بك وقتله وتولَّى حكم مصر بنفسه، وسُمِّي بأبي الدهب لأنه كان ينثر على الناس والفقراء الذهب عند الرجوع من انتصاراته الحربية. وكانت التَّكِيَّة تضم ثلاثة طوابق تشمل سبيلاً لإرواء العطاشى، وكُتَّاباً لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ومسجداً للصلاة. وقد بدأ العمل في تأسيس هذا المتحف عام 2016م، ويضفي تصميمها المعماري الإسلامي عبقاً خاصاً على المكان المتحف بما يتضمنه من صحن مكشوف به حديقة ونافورة، تحيط به مجموعة من القاعات.
والمتحف، الذي لا تتعدى رسوم تذكرة الزيارة له خمسة جنيهات مصرية للمصريين وعشرين جنيهاً لغير المصريين، يصطحبك فيه مرشد أو أمين متحفي، يقوم بالشرح والتوضيح لقاعات المتحف ومقتنياته، التي وزِّعت قاعاته على طابقي التكية، فشمل الطابق الأول قاعة للندوات، ومكتبة عامة، ومكتبة سمعية بصرية، وقاعة أخرى نقدية تحوي أهم الدراسات والأبحاث عن أعماله. ويتضمن الطابق الثاني قاعتين للأوسمة والميداليات والشهادات والجوائز والقلادات والإهداءات، التي منحت له، منها: قلادة النيل، وجائزة نوبل، وميداليات ونياشين وجوائز من دول عديدة عربية وأجنبية مثل: دولة تشيلي ودولة المكسيك، وقائمة بمؤلفاته وتاريخ نشرها، وقائمة بالأعمال المترجمة منها، وصور تذكارية للأديب الراحل مع الزعماء والشخصيات العامة، هدايا تذكارية مختلفة من شخصيات عامة منها سجادة فارسية يدوية الصنع مهداة له من شاه إيران.
وعدة قاعات أخرى تحمل أسماءً منها: الحارة، حيث الحارة المصرية التي ألهمته إبداعاته، وقاعة أصداء السيرة، حيث السيرة الذاتية للأديب الكبير ومسيرة حياته والمتعلقات الشخصية مثل فرشاة الشعر، ومستلزمات حلاقة الذقن الخاصة به، ومسبحة، وبعض أنواع العطور و»البارفانات» التي استخدمها. وقاعة تجليات، التي تلقي الضوء على أفكاره الفلسفية، وبوسع الزائر أن يلتقي بشخصيات عالم نجيب محفوظ الروائي، والأعمال السينمائية التي صورت أعماله الروائية والقصصية، وأن يستعيد الأجواء القاهرية الحميمة في «ركن مقهى الحرافيش». وأن يستمتع بمشاهدة فيلم تسجيلي مدته ثلث ساعة على شاشة كبيرة، وذلك في قاعة صغيرة لا تحوي مقاعد كثيرة، عن حياة الكاتب الكبير، والمناصب التي تقلدها، وإنجازاته وأهم أعماله.
ومن لطائف متعلقات نجيب محفوظ، التي سلمتها ابنته أم كلثوم لوزارة الثقافة في مطلع عام 2011م، وصارت ضمن مقتنيات المتحف، أقلامه التي كان يكتب بها، مكتبه الذي كان يجلس عليه ليكتب في بيته وكذلك مكتبته ، كتابات بخط يده ومسودات لبعض قصصه الأخيرة التي كتبها خلال وبعد فترة النقاهة من حادثة الاغتيال، ماكينة الحلاقة التي كان يحلق بها ذقنه، صور شخصية له مع أسرته ومع العديد من مشاهير الأدب والغناء والمجالات المختلفة، الروب الذي ارتداه في حفل منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة كلية الآداب, قلمان، أحدهما حبر والآخر جاف، أهداهما الأديب الكبير توفيق الحكيم إليه، وساعته المعدنية، ونظاراته، وعدسة للقراءة، وقطعة صخرية من سور برلين، الذي كان يفصل ألمانيا الشرقية عن الغربية في عصر الحرب الباردة قبل إعادة توحدهما هكذا يتواصل الماضي بين الحاضر ويعانق الحاضر التاريخ في رباط لا ينفصم.
وهناك قاعة تشتمل على مكتبه الصغير، وهو يتوسط مكتبته التي تحيط به من الجوانب الثلاثة للقاعة في حنو بالغ تصور لنا بعضاً من الأجواء التي كان يكتب فيها الأديب الراحل إبداعاته.
ويقيم المتحف بعض الفعاليات الثقافية والفنية الأخرى، غير حفظ مقتنيات الأديب الكبير وعرضها، من وقت لآخر، منها: الندوات الأدبية والعروض الفنية، واستقبال الزيارات المدرسية وغيرها من الأنشطة المتحفية؛ ليكون بذلك مركز إشعاع ثقافي يقوم بدوره التنويري والفني في هذا الحي الشعبي من أحياء القاهرة القديمة، وسجلاً توثيقاً لحياة وعطاء قامة أدبية عربية وصلت للعالمية بأعمال جسَّدت حياة هذا الحي بناسه ومبانيه وتاريخه وجغرافيته.
***
- د. محمد أبو الفتوح غنيم