د.عبدالله بن موسى الطاير
يمكن الزعم، مع عدم الجزم، أن أمريكا وروسيا اللتان تستضيفان أكثر الشركات القتالية الخاصة فاعلية، هما المستفيدان من خدماتها، دون إغفال حقيقة قيام هذه الشركات بأدوار قتالية لصالح دول عديدة حول العالم. ولأن القتال يختلف عن أية خدمات أو سلع تدر الربح على المؤسسة، فإنه يقوم على عقائد قتالية دينية أو وطنية كالشهادة والفداء والتضحية، وغيرها من المحفزات التي تجعل النفوس رخيصة مقارنة بما يحققه موتها من غايات نبيلة دفاعاً عن الأوطان والمعتقدات والقيم، فقد يجادل البعض أن الدولة المضيفة للشركة العسكرية أو المشغلة لخدماتها تسبغ عليها عقيدتها القتالية وتسك لها الأهداف السامية التي تموت من أجلها. إلا أن رأياً آخر وجيهاً يذهب إلى أن التجارة تبحث عن المكاسب، وأن الرأسمالية المتوحشة دوافعها تعظيم المكاسب، والنظر إلى القوى العاملة في تلك الشركات على أنها مستأجرة للموت برواتب ومحفزات مغرية.
إنها شريعة العرض المغري بالرواتب، في مقابل الأرواح. ولأن (الزبون) على حق، سواء أكان حكومات أو مناوئين لها، فإن عقيدته القتالية تنسحب مباشرة على منفذي الخدمة. على سبيل المثال فإن مقاتلي الشركات الخاصة في الحرب الروسية الأوكرانية يستلهمون عقيدة الدولة المتعاقدة مع الشركة القتالية، لكنهم من جانب آخر مجبرون على تنفيذ إجراءات التعاقد وأحكامه مع الشركات المشغلة بما في ذلك العقوبات الرادعة لمن يولون الدبر في أرض المعركة. وكما تخلق الشركات التجارية حاجة لسلعها وخدماتها تخلق الشركات القتالية الحاجة لخدماتها، ومن ذلك تهيئة الظروف المناسبة للتعاقد معها، وتأجيل حسم النزاعات المسلحة التي تجد فيها الشركات العسكرية سوقاً مزدهرة لخدماتها.
الشركات العسكرية في نهاية المطاف هي «منظمات تجارية تتاجر في الخدمات المهنية المرتبطة بشكل معقد بالحرب... بما في ذلك العمليات القتالية والتخطيط الإستراتيجي والاستخبارات وتقييم المخاطر والدعم التشغيلي والتدريب والمهارات التقنية». عندما انتهت الحرب الباردة قامت عديد من الدول بمراجعة عقائدها القتالية، واستغنت عن عشرات الآلاف من المجندين في جميع الرتب ومختلف فروع القتال، كما استغنت عن عتاد عسكري متنوع، ووجهت مجهوداتها وإمكاناتها المادية للتنمية الاقتصادية ورفاه الشعوب. وكنتيجة أخرى لترتيبات ما بعد الحرب الباردة ارتفع شأن العولمة، وتمددت مصالح الدول خارج حدودها، وفي الوقت ذاته قيدت تدخلاتها العسكرية خارج حدودها، تحقيقاً للتقشف في مجال الإنفاق العسكري وتهرباً من المسؤولية القانونية والأخلاقية لتبعات تدخلاتها الخارجية، فكانت تلك الشركات العسكرية الخاصة ذراعاً فاعلة للحفاظ على مصالح الدول، وتنفيذ الأعمال القذرة التي تجرمها التشريعات المحلية والقانون الدولي، ويمكن أن نذكر في هذا الصدد الأعمال الوحشية التي قامت بها الشركات القتالية الخاصة في سجن أبوغريب في العراق ولم يحاسب أحد بسببها.
يقول مركز وارسو للدراسات إن الزيادة في التبادل التجاري بين الدول قد أدى إلى اتساع الهوة بينها بدلاً من تقريب وجهات النظر، مما أدى إلى تصاعد العنف في مناطق استراتيجية مهمة من العالم، وخاصة البلدان الإسلامية. لذا استدعت الحاجة أن تقوم الشركات القتالية الخاصة بحماية المناجم والبنية التحتية ذات الصلة، فضلاً عن حماية مصالح الشركات العابرة للقارات، إضافة إلى تقديم برامج تدريبية لأمراء الحرب المحليين في دول العالم الثالث.
الشركات العسكرية الخاصة فعالة؛ ولديها استعداد أفضل من الجيوش النظامية في حوكمة الإنفاق، والقيام بمهمات قتالية في أرض الغير بتكلفة أقل. وهي من أجل ذلك تختار الجنود المسرحين من الخدمة ممن ألفوا رؤية الدم وأدمنوا القتل، إضافة إلى تطبيق اختبارات نفسية لانتقاء أفراد لديهم التوحش اللازم للقتل بدم بارد دون بواعث منطقية، وضمهم إلى صفوف مقاتليها.
وعلى الرغم من الاستخدامات التي تبدو تحت السيطرة حالياً، فإنها قد لا تكون كذلك في المستقبل؛ إذ ستؤدي إلى انقسامات أعمق في المجتمع عندما تتراجع الجيوش عن التوظيف وتترجل عن مكانتها في حفظ وحدة الأوطان لصالح الخصخصة القتالية، كما ستزداد النزاعات في المقابل بين الدول التي ستعتبر أن الشركات القتالية الخاصة ليست سوى مرتزقة يحققون مصالح دول قادرة على الدفع في مقابل خدماتهم القتالية لفرض نفوذها، وستكون الشركات القتالية بمثابة محفز للمشاركة العسكرية قليلة التكلفة، ومع الوقت ستؤدي كما أشرنا إلى تصعيد الصراع وإعاقة آليات سيطرة السلطة التنفيذية كما هو واضح اليوم في عدد من الدول الفاشلة في منطقتنا العربية وتلك الهشة في إفريقيا.
الأمر المحوري الذي لا يجب تجاهله أن القطاع العسكري المخصخص سيشكل رؤيته الخاصة للنظام العالمي، وسيعمل مرحلياً على تحقيق هذه الرؤية وفقاً لما يريده العميل الرئيس للشركات العسكرية القتالية الخاصة، لكن هذه الشركات قد تتصرف لاحقاً لتشكل النظام العالمي وفق ما يريده ملاكها وليس المتعاقدون معها.