حامد أحمد الشريف
من المواقف المضحكة التي لا تغيب عنّي، اضطراري في إحدى الأمسيات الثقافيّة، وفي حضرة رئيس أحد الأندية الأدبيّة، إلى التعريف بنفسي، وذكر نبذة مختصرة عن أنشطتي الثقافيّة التي لم يكن لها - كما بدا حينها - أيّ أثر في تبصير مُحاوري بحضوري في المشهد الثقافي السعودي، إذ تجاوز ما قلته سريعًا، وعاد لتسطيح الفكرة التي أتحدّث عنها، انطلاقًا من عدم درايتي بالنشر والترجمة وما يحيط بهما من معضلات عظام لا عِلْمَ لي بها، ولن أفهمها حتّى وإن استفاض الرجل في الحديث عنها.يومها شعرت بحرج كبير، إذ ظهر كأننّي مدّعٍ لعين، يحاول الاستفادة من هذه اللقاءات لإظهار نفسه! بينما واقع الحال يفترض أنّني في غنى عن التعريف بنفسي، ومُحاوري لم يكن يحتاج لإضفاء قيمة على حديثي معه بذكر مكانتي الثقافيّة، أو الأوسمة والشهادات التي أحملها؛ فالأفكار والأطروحات الحواريّة تعبّر عن أصحابها، وتُظهر سيرتهم الخافية، وإن جهلها البعض. بالطبع لا أستند في تلك القيمة المرجوّة على مجموعة كتبي المنشورة المتعلّقة بالشأن الثقافي، إذ إنّ الكتب - بالأخص في زماننا هذا - لا يعوَّل عليها كثيرًا في التعريف بالأشخاص، بسبب سهولة إصدارها وتداولها، حتّى وإن لم تحمل أيّ قيمة أدبيّة أو فكريّة أو فلسفيّة... خلاف أنّنا قد نلتمس العذر لأيّ شخص لم يجازف بقراءتها من دون أن يعرف صاحبها، ويثق في قلمه، حتّى وإن كانت جيّدة وتعبّر بصدق عن قيمته الأدبيّة.إنّما مصدر استغرابي هو أنّني أنشر مقالات أسبوعيّة باسمي الصريح، وتتضمّن صورتي الشخصيّة، في أحد أعرق وأجمل الملاحق الثقافيّة لدينا، وأعني بذلك ملحق الجزيرة الثقافي الذي - يقينًا - لن يأخذ على عاتقه نشر ما لا يستحقّ، ويُفترض بمن ينشر مداد قلمه من خلاله إن يكون - على الأقلّ - معروفًا اِسمًا وشكلًا، حتّى وإن لم نكن من متابعيه، أو إن كان لنا تحفّظ على تدويناته، ولا نرضى عن شيء من كتاباته... فكيف الحال إذا ما علمنا أنّ المقالات يُعتدّ بها في عمليّة فرز الكتّاب والتعريف بهم، فهي غالبًا ما تعرّي أقلامهم، وتُظهر حقيقتها، وذلك لسهولة قراءتها، وبالتالي إطلاق الاحكام من خلالها على أصحابها؛ بينما قد يصعب ذلك مع الكتب التي لا تقبل مجازفة كهذه غير مأمونة العواقب. لذلك، كان مضحكًا أنّ الرجل المعنيّ بالثقافة، والحارس الأمين على منفذ من منافذها، لا يقرأ ما يُنشر في الملاحق الثقافيّة، ولا يُلمّ حتّى بعناوينها العيضة، وأسماء كتّابها، وهو المنوط به - من خلال موقعه - حثّ أفراد المجتمع على القراءة، وتحفيزهم، ونشر ما يستحقّ القراءة، ورعايته.في الواقع، أنا هنا لا أتحدّث من منطلق شخصيّ محض، فأنا لن يضيرني إن عرفني أو جهلني هذا الرجل أو غيره، طالما أنا موجود في المشهد الثقافيّ، ولن يلبث أن يعود البصر خاسئًا وهو حسير، لمن يعيد النظر كرّتين في ما أكتب وأنشر، وسيعلم هو أو غيره موقعي وموقعه، وحسبي ما قاله الفرزدق في حقّ من يجهل الأعلام من الرجال، عندما أنكر على هشام بن عبدالملك عدم معرفته بزين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من فقهاء المدينة - خلاف نسبه الشريف - وانبرى يومها الفرزدق للتعريف به لمن جهله، في قصيدته المشهورة التي منها قوله: "وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه .... العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ"؛ وإنّما أستهدف بهذا الاستهلال، الانطلاق من هذا الموقف في سبيل الوصول إلى الخلل الأكبر الذي يحيط بثقافتنا، عندما يعمّ بلاء عدم القراءة حتّى يشملَ المعنيّين بالثقافة والمؤتمَنين على حياضها، فنجد هؤلاء لا يقرأون المقالات الثقافيّة، على ندرتها، ولا يكلّفون أنفسهم - على الأقلّ - عناء التصفّح السريع، والوقوف على عناوين الملاحق الثقافيّة، ومعرفة الناشطين على صفحاتها، في وقت تُعتبَر معرفة هؤلاء الكتّاب جزءًا لا يتجزّأ من عملهم، أكان في استقطابهم للإفادة منهم، أو استبعادهم لتخفيف ضررهم إن لم يكونوا بمستوى أنشطتهم، أو حتّى توجّهاتهم الفكريّة؛ وهم بذلك يشبهون القائمين على الأندية الرياضيّة، عندما يكونون غائبين عن الساحة الرياضيّة تمامًا، لا يتابعون مستجدّاتها، ومَن احتجب ومن حضر من لاعبيها، ولا يهتمّون إلّا بشؤون ناديهم، في حدوده الضيّقة جدًّا.
فهل لهؤلاء القدرة على تأمين احتياج فريقهم، وإمداده باللّاعبين الجدد، والدخول في منافسة مع خصوم لا يعلمون عنهم شيئًا؟!قد يقول البعض، إنّ ما حدث يعدُّ حالة فرديّة لا يقاس عليها. بينما لا أراه أنا كذلك، بدليل أنّ الوزارة نفسها لا تعرف الناشطين في حقلها، وليس لديها قواعد بيانات تُيسّر لها التعاطي معهم، وتقنين الاستفادة منهم، وتوزيعهم على أنشطتها المختلفة؛ بل تعتمد عادة على مثل هذا المسؤول أو ذاك، في ترشيح من يراه مناسبًا، أو تذهب نحو تركتها القديمة من المثقّفين والأدباء الذين ذاع صيتهم في فترة من الفترات، لسبب أو لآخر، وحُفظوا في الذاكرة الجماعيّة. وهؤلاء تكرّر حضورهم حتّى لم يعد أحد يحفل بهم، بل أصبح استقطابهم وبالًا على المسؤولين، وجعلهم يذهبون باتّجاه استقطاب الشباب، معتمدين أيضًا على الآليّات القديمة نفسها، في ذهابهم باتّجاه الترشيحات السيّئة التي لن نجني من ورائها شيئًا، طالما اعتمدت هذه الفوضى في استقطاباتها التي يُشمّ من خلالها رائحة المحسوبيّات - وإن في حدّها الأدنى - من خلال تقديم المعارف والأصدقاء، أو التخاذل عن البحث، والذهاب نحو الذاكرة العشوائيّة.
إنّ هذا النهج المتّبع - للأسف - في التعاطي مع الشأن الثقافي، والتراخي في حصر المبدعين، والتعرّف عليهم، ورعايتهم، وتوظيفهم التوظيف الأمثل، يضرّ بما تنتهجه حكومتنا بهدف إعلاء راية المملكة خفّاقة في كلّ المناشط الثقافيّة الدوليّة؛ فلن يكون لنا حضور حقيقيّ طالما أُوكل لبعض المتنفّذين الإتيان بالمعارف والأصدقاء والأقرباء، أو حتّى الركون إلى الأسماء القديمة - رغم قيمتها - ولن يخلي مسؤوليّة الوزارة جهلُها بما يحدث من تجاوز، فهذا من المواضع التي يحاسَب فيها العالِم والجاهِل، ولا يُعذَر أحد بجهله؛ فمن صميم عمل الجهات المعنية، حصر الناشطين في مجالها، ومعرفتهم، والوقوف على مكامن قوّتهم وضعفهم، ووضع الخطط للاستفادة منهم، كلٌّ في مجاله، أو استبعادهم. ولعلّي عندما أذهب بهذا الاتّجاه، أستدلّ على ذلك من خلال متابعة الأنشطة التي تتبنّاها الوزارة أو هيئة النشر، حين لا نجد إلّا من سبق وذكرتهم، أو بعض الأسماء المرتبطة بمن أوكل إليهم الاختيار، وتوجيه الدعوات، أو بمن يتصادف ظهوره إعلاميًّا لسبب أو لآخر، فيتمّ استقطابه والاحتفاء به؛ والصدف - كما هو معلوم - لا تقيم عدلًا، ولا تحقّق منجزًا حقيقيًّا.
إنّ الحالة الثقافيّة في أيّ مجتمع، هي مقياس حقيقيّ لمدى تقدّم هذا المجتمع، واستنارته، ومواكبته للحضارة. وبقدر رعايتنا للمثقّفين نجني الثمار المرجوّة؛ فالثقافة، شأنها شأن كلّ المناشط الإبداعيّة، قد تكون واجهة مشرّفة، تُعرَف قيمة المجتمع من خلالها، وقد تكون العكس... ويبقى الحديث عنها ما بقيت الحياة؛ فنحن لا نذكر من كلّ العصور البائدة إلّا شعراءَها وكتّابها وعلماءَها وقياداتها، ونظلّ نكرّر أسماءَهم، ونتحدّث عنهم، ولا نلتفت إلى سواهم، بل وندرس المجتمعات من خلالهم؛ فإظهارهم ورعايتهم واجب، وهو ما جعل الدولة - أعزّها الله - تضع ذلك في حسبانها، من خلال الاهتمام سابقًا ولاحقًا بالشأن الثقافيّ، بإنشائها الأندية الأدبيّة، وإمدادها بالمال، وتطويع الأنظمة لخدمتها.
ولاحقًا إنشاء هيئة الأدب والنشر، وأُنفق عليها ببذخ كبير، في سبيل تحقيق أهدافها، وتمّ اعتماد فكرة الشريك الأدبيّ، لتسهيل احتضان الأنشطة الثقافيّة، وتعميمها على كلّ مدن المملكة.
بينما لا نجد ذلك متحقّقًا على أرض الواقع، إلّا من الناحية الشكليّة غير المجدية، ذلك أنّ البعض اتّخذها - كما يقال - "سبوبة" للعيش، يغتني من ورائها ويقوّي علاقاته الاجتماعيّة والأسريّة، بمنح الهبات لمن يستحقّ ومن لا يستحقّ.
ظهر ذلك حين فرضت أسماءَ معيّنة، عندما تعلّق الأمر بالحركة الفلسفيّة، فأمدّت الشركاء الأدبيّين بأسماء بعينها، استقطبتهم ومنحتهم منصّات للحضور وقول كلمتهم في كلّ مدن المملكة. وهو ما يجعلنا نقول بكلّ وضوح، إنّ مَن قام بهذا الجهد المشكور كان يسعه بذله أيضًا على مستوى المثقّفين والأدباء، بحصرهم وإمداد الشركاء الأدبيّين بهم، ودفعهم لاستضافتهم والاستفادة منهم، عوض ترك الحبل على الغارب، وإفشال مشروع كان من الممكن تحقيق نجاح كبير من خلاله، لو اهتممنا بالتفاصيل الصغيرة، وسعَيْنا من خلاله إلى تكريم المبدعين، وتقديمهم كأنموذج يُحتذى به. ولا يكون الفيصل هنا كما هو معمول به حاليًّا، باشتراط وجود مؤلّفات للضيف، وسلامة سجلّه الشخصي، ليتمّ الموافقة عليه، إذا ما علمنا أنّ الكتب - كما أسلفنا - لا تعدُّ مقياسًا، في زمن ابتذال النشر، ورواج الكتب الفقيرة أو الركيكة؛ وهو ما يجعلنا نصل في نهاية الأمر إلى نتيجة الصفر، رغم كلّ ما بُذل من جهد ومال، وما استُنزف من وقت، فنجد أمسيات أقيمت لم يهتمّ بها أحد، ولم يُجنَ من ورائها أيّ فائدة تذكر، إذا ما استثنينا العوائد المادّيّة التي ذهبت إلى جيوب من لا يستحقّها.
نجد كذلك كتبًا أُنفقت عليها ميزانيّات ضخمة، تُطبع على حساب الدولة، علمًا أنّه لم يعد أحد يحفل باقتنائها، فضلًا عن قراءتها، وشكّل بعضها عبئًا على كاتبها، ودار النشر التي أصدرتها، والنادي الأدبيّ المموِّل لها، إذ باتوا يتلمّسون أيّ مناسبة لتوزيعها مجّانًا، وقد لا يجدون مَن يقبل بها، فتتكدّس على الأرفف حتّى تفنيها القوارض والحشرات، ويتمّ التخلّص منها. ولعلّ ما يزيد الطين بلّة - كما يقال - افتقارنا إلى أيّة جوائز حقيقيّة، تكرم المبدعين، وتسنّ قوانين صارمة لضمان عدلها وإنصافها. وأذكر هنا أنّني صُدمت في إحدى المناسبات، عندما استمعت لعملٍ أدبيّ فائز بإحدى الجوائز، وكان ساقطًا في قوانين الجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه! ما يعني أنّ كلّ ما يُستحدث للنهوض بالشأن الثقافيّ، لا قيمة له إن لم نضمن نجاحه، وتحقيقه الأهداف المرجوّة منه؛ فالجوائز موجودة، وبعضها يحمل قيمة مادّيّة كبيرة، لكنّها لا تحقّق أهدافها بسبب الداء العضال الذي نعاني منه، ويمتدّ تأثيره ليشمل كلّ المناشط الثقافيّة، فكلّ الأنشطة تدار بالعقليّة القديمة نفسها التي لا تزال ناشطة رغم سوئها، ونُضوب معين بعضها، واستهلاكهم طاقتهم الإبداعيّة - إن كانت موجودة في أصلها - ولعلّ من أسباب ذلك أيضًا، احتكار شلّة معيّنة لبعض الأندية، يتناوبون قيادتها، ويسيّرونها وفق إرادتهم، دون محاسبة، وكأنّها جزء من أملاكهم الشخصيّة.
لا يمكن تغيير هذا المشهد الثقافيّ بإقامة وزارات وهيئات، طالما لا يزال الحرس القديم فاعلًا في ساحتها، ومتنفّذًا يتحكّم في قراراتها، ويوجّهها تِبعًا لمصالحه الشخصيّة، أو لما يتّفق مع عقليّته ومستوى إدراكه وفهمه. لا يمكن أن نرجو خيرًا والبعض لا يزال يتصرّف وكأنّ المنشآت الحكوميّة الخدميّة أملاكٌ شخصيّة، يستخدمها لتقريب من يحبّ وإبعاد من يكره. والأكيد أنّنا لن نصمت طالما لم يتحقّق الحدّ الأدنى من أهداف الدولة، بتغيير بعض الجهات المعنية لنهجها، وسنّ القوانين التي تعيد الثقافة إلى أهلها، واعتماد آليّة فرز جديدة، تحكم على علمهم وثقافتهم، وسعيهم الحقيقيّ لخدمة دينهم ومليكهم ووطنهم، وإعلاء راية التوحيد بين كلّ الأمم، انطلاقًا من الثقافة والأدب اللذين يعدّان واجهة حضاريّة يعوَّل عليها كثيرًا للتعريف بالحقبة التي نعيشها الآن، في ظل رؤية، متأمّلين أن يتمخّض عن ذلك - على الأقلّ - دفْع المجتمع الثقافي للقراءة والكتابة، واحتضان المبدعين، ونشر إبداعاتهم، بدل المشهد الحالي الذي نرى فيه بعض حرّاس الثقافة المنوطة بهم هذه المهامّ الجسام، يحتاجون سَنّ أنظمة وقوانين تجبرهم على قراءة عناوين المقالات المعنيّة بالثقافة في صحفنا المحلّيّة، وترديد أسماء كتّابها لحفظها والتعرّف بهم، منعًا للإحراج.