سراب الصبيح
منذ ردح من الزمان شغلتني علاقة الإنسان العربي بالحيوان، فكنت أحدث نفسي عن تقديم دراسة حول هذا الموضوع، فكان هذا المدخل القصير الذي يعرض لفكرة الموضوع عرضا، لمن رأى في نفسه من باحثي الدراسات البينية رغبة في أن يتبناه في الدراسة المطولة المستفيضة، والمقسمة على فصول وأبواب في تتبع البنى التصورية للحيوان في العقل العربي.
تقوم أركان عنوان هذه الدراسة على ثلاثة ألفاظ رئيسة: (المخيال-العقل-الحيوان)، أما المخيال، فقد عمدت إليه؛ لأن هذه الدراسة تهتم بتبني التصورات المجازية الخيالية لثقافة الحيوان (الركن الثاني في الموضوع)، والتي بدورها شكلت تصورات العربي عنه. وكما جاء في مقال «المخيال وفكرة أنهم عرب» لمحمد عبد الله الهنائي، المنشور في مجلة «الفلق» من شهر أكتوبر من عام 2014م قوله: «نشأة مفردة «المخيال» كانت في الأنثروبولوجيا الفرنسية على يد عالم التحليل الفرنسي جاك لاكان، وهي تعني فعل التأويل لما يعيشه الإنسان في علاقته بذاته أو لما يعيشه في علاقته بالآخر. بشكل أوضح: المخيال عبارة عن مخزن من الصور والتمثلات والرموز والحكايات والأساطير التي تشكل تاريخا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن كنتيجة لعملية التأويل التي تحاول بها جماعة ما رسم واقعها الداخلي أو واقعها مع الآخر.» وأما العقل فكما جاء في لسان العرب لابن منظور: أن العقل هو ضد الحمق، وهو التثبت في الأمور. ولأن الدراسة تقوم على تبني التصورات المخيالية لثقافة الحيوان؛ فإنها تنطلق من تصورتها في العقل العربي، ليس من الدماغ الذي محله في الرأس.
لعل المتتبع لعلاقة الإنسان العربي بالحيوان يلحظ أنه يسقط عليه صفات من وحي فكره البشري، فإن العربي من خلال ما يلاحظه من تحركات هذه الحيوانات يسقط عليها صفات، إلا أن هذه الصفات التي يسقطها ما هي إلا تصورات تكونها كيفية العقل البشري واشتغاليته في آن! أقصد بذلك: أن آليات الاشتغال في عقل الإنسان تختلف كليا عن آليات الاشتغال في عقل الحيوان؛ ولذلك فإن الصفات الحميدة والذميمة التي يعرفها البشر في ذواتهم هي صفات تتجلى في كينونة النفس البشرية، هذه النفس التي يدركها الإنسان في عقله، لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الصفات حاضرة في النفس الحيوانية التي تتجلى بها صفاتها من إدراك العقل الحيواني للحياة من حوله. ويدلل على قصور التصورات الإنسانية للحيوان، أو عزلها عن صفاتها الحقيقية؛ هو إلباس تلك الحيوانات لبوس الصفات الإنسانية في الإنسان، فتراه يلبسها الوفاء والقوة والغدر والحقد والغباء... وهلم جرا.
لكن يبقى السؤال الأهم: ماذا عن الحيوانات أنفسها؟ هل تدرك أنها تحمل هذه الصفات؟ هل تحملها حقا؟ هل هي جزء من تكوين شخصيتها؟ أم أنها تحملها كما نراها وهي لا تعلم؟ ثم إني أشير إلى ملاحظة مهمة: نحن البشر خلقنا من نفس الجسد، أقصد أننا جميعنا نحمل في أجسادنا نفس الأعضاء الجسمانية، لكن صفاتنا تختلف، فمنا الوفي ومنا الغادر، إذن -والحالة هذه- فإن الخيل -مثلا- جميعها تحمل نفس الجسمانية الجينية، فهل نحن حين نصف الخيل بالوفاء، فهذا يفضي قطعا إلى أن كل الخيل وفية؟ أما أنها مثل البشر منها الوفي ومنها ما هو غير ذلك؟ وهذا يذكرني ببيتيّ المتنبي:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ثم إن الحيوانات ليس بالضرورة أن تستقبل الصفات الإنسانية في كل فصائل الحيوان؛ فإني في تصوري أن الحيوانات تتجرد من تلك الصفات التي ألبسناها إياها انطلاقا من تمثلات التصورات في العقل العربي حول صفات تلك الحيوانات، فهي إسقاطات تكونت من المخيال الثقافي لمجموع البنى التصويرية حول هذا الحيوان، من خلال علاقة الإنسان العربي به وبالعالم من حوله، وإلا فإن الحيوانات في ذواتها لا تحمل هذه الصفات، كما أنها لا تعيها. بل وربما ما نشاهده من صفات تلك الحيوانات من القوة وغيرها، فإن هذه الصفات في عقولها لها دلائل أخرى تتمثل في النفس الحيوانية، فربما القوة التي نراها بالنمر؛ هي انطلاق من إقدام الرجل العربي على القتال، في حين أن النمر لا يراها قوة، بل يراها سد جوع لا أكثر.
ولعل البرهان الذي يدلل على ذلك؛ أن صفات الحيوان الواحد تختلف من قوم لآخرين، فمثلا «الكلب» على الرغم من التفات العرب لوفائه، إلا أنهم لا ينفكون عن ربطه بالدنس، بينما هو الحيوان الأفضل لدى أمم أخرى، كما أني لا أدري إن كان التفات العرب لوفائه هو دراية من العرب أنفسهم، أم أنها ثقافة دخيلة عليهم من الأمم. أيضا فإن المخيال الثقافي للعرب صور الناقة بالصبر؛ لأنها المصاحبة لأسفارهم في الفيافي
المترامية الأطراف، في حين أننا لو أمعنا النظر في حيوانات البراري الأخرى لوجدناها أيضا صبورة في معيشتها؛ إن كانت الحيوانات تعي الصبر كما نعيه. ثم وبعد هذه البنى التصورية في المخيال الثقافي للحيوان صارت هناك حيوانات للمدح حين الاتصاف بها، وأخرى للذم؛ تبعا لتلك الصفات المسقطة. لكن: ما حقيقة الحيوان بعد إماطة اللثام عن تلك الصفات المسقطة عليه؟
وللإجابة عن هذا السؤال، ألتفت إلى المعنى اللغوي الاصطلاحي لأسماء الحيوانات في اللغة العربية؛ ليتبين لي ما إذا كانت العرب سمت أسماء الحيوانات تبعا لجذور الدلائل اللغوية، أما إذا كانت أسماؤها هي الدلالة اللغوية، والتسمي بها هو الاصطلاح، فوقفت على أسماء ثلاثة حيوانات في لسان العرب لابن منظور: فجاء به أن البقر اسم جنس، والبقرة من الأهلي والوحشي يكون للمذكر والمؤنث، ويقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلت الهاء دلالة على الجنس، والجمع البقرات؛ وجاء في النَمِر أنه ضرب من السباع، وسمي بذلك لنمر فيه؛ لأنه من ألوان مختلفة، فالأنْمَر الذي فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء. إذن لعل البقر اسم جنس ليس له دلالة لغوية، أما النمر فلعله سمي بذلك لدلالة ضربة الألوان. وأما الحيوان الثالث فهو كدلالة البقر، فقد جاء أن الحمار هو النهاق من ذوات الأربع أهليا كان أم وحشيا. هذا تلميح سريع نجد به أن النمر يدل على دلالة في اللغة، بينما البقر والحمار هما دلالة اللغة ومنهما خرج الاصطلاح.
وفي عرف العرب فإن الحمار من الحيوانات اللواتي تدل على مستهجن الصفات؛ ولذلك لا نجد ذكره في القرآن على سبيل التمثل بالصفات الحميدة، فوظفه في قوله «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» و «كمثل الحمار يحمل أسفارا» لكني وقفت كثيرا على هاتين الآيتين، وتساءلت ما إذا وظفه الله في هذا الموضع لما يحمله من صفات دميمة، أم لأن القرآن جاء مخاطبا العرب بلغتهم؛ فقد وظفه لما عند العرب من بنى تصورية عنه في مخيالهم الثقافي!
ومن هنا يتبين لي سبب تسمية العرب لأبنائهم بأسماء حيوانات أسقطوا عليها الصفات المشرفة، كاسم نمر، صقر، فهد، ذيب، في حين أنهم لا يسمونهم بأسماء حيوانات جردوها من تلك الصفات وألبسوها لبوس المستهجن، بل وصارت أسماء لتنابز، كاسم حمار، بقرة.
أما أنا فإني في تصوري أن البنى الثقافية في مخيال العرب أسقطت الصفات على الحيوانات، أما هي فإنها تتجرد منها؛ لأن الصفات المسقطة إنسانية، أي: تتمثل في الإنسان من وعيه الإنساني في آلية اشتغال الدماغ البشري، لكن الدماغ الحيواني له آليات اشتغال مختلفة، ومنها تتمثل بهم صفاتها التي تدركوها ولا ندركها، كما أنها لا تدرك ما حملناها إياها من صفات، ولا تتعامل بها، كما لا تتصف بها؛ لأنها صفات منوطة بالفكر الإنساني الذي يدركه الإنسان في وعيه، لا بالفكر الحيواني. ولذلك فإني أسأل: هل للحيوانات شخصيات تعيها في ذاتها حتى نسقط عليها صفات؟ ثم: هل العربي يتعرف على نفسه من خلال شخصيات الحيوانات؟
إني أميل إلى الظن بأن شخصيات الحيوانات تختلف عن شخصيات الناس؛ تبعا لاختلاف الوعي بيننا، لذلك فإن الصفات التي تتصف بها يجدر أن تكون انطلاقا من شخصية الحيوان المنوطة بوعيه الدماغي كما العقلي، لكن نحن نسقط عليها الصفات التي نعيها في إنسانيتنا من خلال ما نراه منها في ممارساتها البيولوجية التي نفهمها بداخلنا، كالقوة في النمر مثلا. علاوة على ذلك فإننا يرتبط بهاؤنا وازدراؤنا بها بالشكل الجسماني لها، والذي له نصيب من التصورات التي نسقطها عليها.