قبل البدء: إن عنوان قراءتي هذه مقتبس من الرواية "لمحو آثار الجريمة والعقاب" ص105.
صدرت رواية "حوش عباس" للروائي والصحفي جابر محمد مدخلي في طبعتها الأولى عن دار تشكيل عام 2022م، ولم يمر عليها وقت قصير حتامَ طبعت طبعة ثانية.
وأمام هذه الجمهرة الدعائية من هنا وهناك خفت من أنها فقاعة تتبدد بعد صفحات من القراءة؛ ففي داخلي توجسٌ من روايات الأكثر مبيعاً والأكثر طلباً، أخاف أن ذائقتي الانتقائية ستفرض وجودها وأرفض العمل قبل إتمام قراءته ولكن مع رواية "حوش عباس" ومن حُسن حظي اختلف الأمر؛ لأن مسألة انتشارها والهالة الإعلانية، والإعلامية التي صاحبت الرواية منذ ظهورها استحقتها بجدارة!.
إننا أمام عملٍ روائي سعودي وعربي عصري كتب باحترافية وإتقان، أجدني أقف بدهشة على باب الكتابة عنها، بين سرد مكامن الجمال التي أسرتني وطرح الاستفهامات التي أربكتني، لذا سأحاول لم أطراف الحكاية والخروج من "حوش عباس" بأكثر الذخائر الأدبية!
أخذنا المؤلف في رحلة عبر الورق إلى أعماق جيلان بطل "حوش عباس". جيلان ذلك البطل العاشق للجبال وصخورها، صاحب الذهن المُتقد، والعاطفة الجياشة، والدموع الحارقة، والحضور الآسر والمُختلف. طيب القلب، لم ينهشه الإنتقام، ولم تفنى حياته دون حب وعاطفة!
جيلان الصغير في عمره الكبيرة أحداث حياته. جيلان تذكره القرى والمدن والأحواش والطرقات. لا ينساه الأصدقاء بعد الفراق. لم يكن بطلًا عابراً أو رقماً في قائمة الصبيان. منذ الصفحة - أو الصفعة- الأولى قطعًا تملكنا نحن قوم القراء تعاطفٌ جياش تجاهه. بدأت معاناته منذ أن تبددت براءته أمام قسوة الظروف واتسعت حين غدا شابٌ مغدور في رجولته وثقته أمام نفسه فرجل صبور مغلوب على عاطفته وأمره! شكّل الكاتب جيلان على هيئة بطل لا يُقهر رغم أنه قُهرَ وظُلم طوال ظلمات أحواشِ ثلاثة هي مفاصل النص. ومع أن المؤلف لم يشفق على أم جيلان وقرائه من الأمهات، وربما –بدا لنا- أنه ظلم جيلان وقسى عليه صفحة بعد صفحة إلا أنه ومع هذا نجح في كسب تعلقنا بهذا الجيلان!.
لقد أبدع الكاتب تمامًا كما أبدع بطله الثانوي "حوذان في رسم صور شخصيات الرواية بلا ريشة ولا ألوان! صوّرهم أمامنا بالكلمات فقط! فياله من ساحر. ذكرني بقول بنزار: "خلاصنا في الرسم بالكلمات" وأنا أقول: "الرسم بالكلمات" مهارتك يا جابر!.
العجيب أن رواية عنوانها "حوش عباس" تتضمن جماليات في الموسيقى والرسم! فأي تناقض وحنق حمّلنا إياه الكاتب تجاه عنوان روايته الذي نجح وبجدارة في شد انتباهنا على امتدادها؟.
تحدث عن الأنغام الحدودية، الجبال التي تردد الصدى وسيمفونيات الوداع، ثم بعد صفحات وسنوات ظهر بين جنبي الرواية حديثٌ عن الفن والرسم والموهبة النائمة التي أحيتها المعاناة على يد "حوذان" لقد جعل "مدخلي" لشخصيات روايته تفردهم الخاص في الحزن والمعاناة فهنيئاً لهم به! لم يقتصر الأمر على إيجاد الفن والموسيقى بل على جانب آخر تعرض للأديان السماوية الثلاثة:الإسلام، والنصرانية، واليهودية! فهل تعمد هذا؟ أم أن شخصيات روايته اعتنقوا الأديان التي تُناسبهم رغماً عن قلمه ومعتقداته؟ بالنسبة لي وعلى صعيد شخصي أعجبني هذا التنوع؛ رأيته يضع الرواية خارج إطار التشدد الديني الإسلامي، ففي كل جماعة وديانة متعصبين وخارجين عن القوانين!.
لم ينس المؤلف فضل العلم إذ جعل منه النور الذي أضاء عقل وقلب جيلان، جعل من مهارة حفظه ودراسته وقراءته للكتب حصناً ضد الانهيار والفشل والاستسلام، ومواجهة الطغيان وإضاءة الفانوس العقلي الذي أوصت عليه معلمته "رانية العدنية".
وأبهرني كثيرًا عنصر التشويق في "حوش عباس" كان الكاتب صياداً بارعاً في صيد اهتمامي ولهفتي لمعرفة الأحداث! لقد وزع بذكاء مدروس وبلسان جيلان المغلوب على عُمره جملاً تعزف على أوتار الفضول! فهنا آخر مرة يضحك فيها، وبعد صفحات أخرى آخر مرة يرى فيها أخته أو الجبل أو صديقه. مرةً يلعن "طلال" وأخرى "عباس" وثالثة يبعثهما إلى جهنم.. ونحن نتوق فضولاً وإهتماماً وخوفاً ورغبة في معرفة المزيد! بالفعل نجح "جابر مدخلي" في سرقة فضولي منذ الصفحات الأولى حيث أن مصيبة جيلان أكبر من كلمة "مات فلان وأنتهت القصة" والجرح في سرده أعمق من قضية فراق تقليدي!.
ثم إن المرأة قد حضرت بشكل لائق في "حوش عباس" رغم تعدد أدوارها التي قامت بها بين المقبول والمرفوض –ورغم ذلك- لم تكن ساذجة غبية حمقاء، ولم ترزح تحت وطأة العاطفة بل نجح "مدخلي" في إخراج صورة المرأة بشكل لائق، حتى بنات الهوى أو الآخرة كما أسماهن تحدث عنهن بلغة "نظيفة" غير خادشة. وأما والدة جيلان المرأة الجميلة الذكية فقد نجح في توظيف عاطفتها وجمالها لتسير حياتها الزوجية كأفضل ما يكون. وكذا الشيخة رباب الملعونة في السموات والأرض لم تكن مجرد نسخة نسائية من الشيطان الرجيم، بل كانت جديرة بما كُلفت به. حتى النسوة اللاتي تبرعن بذهبهن وأموالهن لغير مستحقيها على غفلة منهن وجد لهن الكاتب عذراً مقبولاً إجتماعياً في روايته! ورغم المصاعب والمصائب لم تكن المرأة مُهانة في "حوش عباس"!.
علاوة على ذلك لم تخلو "حوش عباس" من الأدب والفلسفة والبلاغة، بل غرف كاتبها من بحور الآداب وصاغ الحكاية كما يجب أن تُقال. في نظري تألقت البلاغة في أوصاف كثيرة منها الجبل والرحيل عنه والشوق له. ففي الرواية يبكي الجبل بدموع من صخرٍ على فراق جيلان وعائلته! يا لجرأة "جابر" على الجبال، يقول:"بقي جبل الدود وحده شامخاً، تتساقط منه الصخور بفعل الرياح كما لو أن الجبل يبكي فراقنا، ودموعه تلك الحجارة المتساقطة التي احتفظت بعضها بدمي! ص20" ثم بعد سنوات أراد الكاتب أن يبقى الدمُ شاهداً على الحب، فقال على لسان جيلان: " لقد قابلت دمي وأنا في طريق الهبوط، دمي الذي لم تمحه الأمطار التي داومت سقوطها، وأسهمت في اخضرار القمة، وكأن الصخور حاضت في غيابي! ص76" هل أقول بأن الروائيين يقولون مالا يفعلون وأنهم يبالغون ويكذبون ونحن نصدقهم بكل ترحاب! "جابر" لم يقل أن الصخور بكت دماً -فهكذا تشبيه مكرور لا يصدق- ولم يقل بأن الصخور جرحها غياب أحبتها فنزف الجرح دماً. ولكنه جعل صخور جبل الدود تحيض! الله كم أعجبني التشبيه رغم أن الحيض كفعل لا يُعجب أحداً!
مرر "مدخلي" فكره وتجاربه و رؤاه الفلسفية بسلاسة بين السطور، فتحدث عن أوراق الغيب وأنها "أثقل من قدرتنا وقوتنا على قلبها وتصفحها قبل صدورها"ص 86. كما تحدث عن "سنوات الطفولة الأولى التي تمر كشهابٍ يرسله الله على شيطان سعى لبلوغ اسراره"ص123. حتى الشجاعة في حوش عباس كان لها فلسفتها الخاصة حيث قال بأن: "الشجاعة يتأخر نموها ولا تجيء إلا في الوقت الذي لا نحتاجه فيها"ص126.
كذلك الخارجون من أبواب السجون مالهم وماعليهم وكيف يرون الأشياء بل كيف يلمسونها. اختصر مأساتهم بقوله الذي راق لي: "كان بي مسٌ من السجن." ص172
وأعمق ملفات الفلسفة التي أوقدت نيرانها فيّ قوله: "إن الذين يكرسون أعمارهم من أجل تغيير مفاهيم الناس، وإيصال تيارات الوعي إلى أذهانهم لا يهرمون أبداً، ولا يتألمون مهما طعنتهم الحياة في خواصرهم." ص220.
ولعل من أجمل ما حدث بالرواية لغتها القرآنية التي توحي بحفظ كاتبها للقرآن. إنها هالة نورانية من الإبداع. يقول واصفاً بيت الزوجية: "أول بيت وضع للحب." ص20. وحول هذه الجملة تحديداً أقول: هذه الجملة تصلح لأن تكون تعويذة تُعلق على باب العائلات! كما يتساءل جيلان ذات صفحة فيقول: "ترى هل تتحقق أمنيتي بأن يهب لي ربي غلاماً يكون قريباً من روحي؟" ص45. وأخيراً ابتهلنا جميعناً إلى الله ورددنا آمين لدعوة جيلان على طلال حيث قال: (فويلٌ لطلال من الله، سيرهقه صَعودًا." ص 104.
وأما الجماليات والمُعلقات اللغوية فكثيرة أقتبس منها هنا القليل: "إنها أمي، وعاطفتي الكبرى. إنها طواف قلبي، وميقات روحي، ومنزل صدري، وحضني الفاقد. إنها حياتي الكاملة، وسعادتي الأبدية." ص270. "شهور ثقيلة مرت وأنا أعيش على مسؤولية نفسي. يأكل داخلي بعضي. تمت خلالها مصادرة إنسانيتي بالكامل ولم أعد أعرفني!. ص303.
الحكاية في "حوش عباس" قيلت على لسان جيلان مباشرة للقراء، لم يفسد "مدخلي" علينا متعة الخيال أن البطل يحكي لنا سره على إنفراد! كان يستطيع في نهاية الرواية أن يجعل الراوي يحدّث أخباره لأمه أو أخته أو زوجته المستقبلية أو حتى لصديقه "صولان" أو النقيب "سلطان" مثلًا، ولكنه جعله يحكي لنا سيرته المأساوية ببوح صادق. لقد احترم وقتنا وراعى مشاعرنا تجاه هذا الصبي، فشكراً له.
أما عن النهاية التي اختارها "مدخلي" فلعلي أقول بأنها نهاية أربكتني! هذه القصص المؤلمة لا يليق بها سوى خاتمة موجعة! فاجعة في السطر الأخير قد يجعلنا كقراء نلعن التقصير والتطرف والخوف والحقد وغيرة النساء والأبناء وتسلط شهوة المال! النهايات السعيدة لا تكتب وإنما يعيشها الأبطال بصمت في بيوتهم! وأما على الورق فلا بد وأن تسفك دماء الحقيقة ويُجلد الظالم، ونبكي حداداً على موت الأبطال! الأبطال الحقيقيون يموتون في المعارك يا جابر صدقني.. أنا أعلم بحال المُعدمين الخائفين من ضحايا الظروف مثل جيلان العزيز!. ومع ذلك بعدما انتهيت من قراءة "حوش عباس" كتبت في الصفحة الأخيرة: لقد نفخ كاتبها الروح في النهايات السعيدة للروايات الأليمة.. وصنع روايته المُعجزة.. فتباً، تبُا.
ختاماً أقول بأن "دوستويفسكي" كما عرفناه يُبحر عميقاً في النفس الإنسانية، يشرَحها ويشرِّحُها صدمة بعد صدمة ليكشف لنا سوءات خيباتها ومواجعها النفسية رواية بعد أخرى، لذا أقول -وأتحمل هذا القول وحدي- بأن "جابر مدخلي" نجح -تمامًا كدوستويفسكي- في تحليل نفسية بطله "جيلان" ووصف مشاعره وقهره وألمه وخيبته وجروحه الصغيرة والكبيرة فصلاً بعد آخر: في السجن، وعلى قمم الجبال، وفي البيوت والطرقات، والأحواش!
رواية "حوش عباس" رواية كتبت بشكل متقن بدا واضحًا أن كاتبها لم يتعجل على نشرها؛ لقد أتت واقعية حد اليأس وخيالية حد التحليق!.
أقول قولي أعلاه فما وافق النقد فهو ضوء وما خالفه فهو شعور آمل إيصاله بكل لغات العالم.
** **
- عهود عبد الكريم