يصور الشاعر أحمد مصطفى سعيد في ديوانه الجديد «تجليات الصمت» العديد من صور الحياة المتعددة، فيقدم للمتلقي العربي أشكالًا من المشاعر والأحاسيس والمواقف الإنسانية التي ترافق المرء في حياته والتي تساعده على كيفية التعامل معها ومع الآخرين، سواء على المستوى الاجتماعي العلائقي أم على المستوى العاطفي المحض.
تحكي القصيدة في ديوان «تجليات الصمت» حكايات الحزن والحب والألم والمعاناة والوجع والغياب والغربة والدمع الغزير والفراغ القاتل، في ارتباط وثيق بخصوصية الشاعر نفسه ومواقفه من الذات والآخر. فالقصيدة هي التي تشكل الشاعر أو نفسيته على الأقل، سواء من خلال ما تحتويه من أحاسيس ومشاعر قوية، أم من خلال إعطاء الفرصة للغة الشعرية للتعبير عن عوالم متخيلة حينًا وواقعية حينًا آخر. إن جمال القصيدة، ومن خلالها، جمال اللغة الشعرية قد نسجتها بتأنٍّ وبشكل هادئ دون انفعال لغوي يفرض على القارئ الناقد الوقوف عليها بذكاء وتحليلها بقوة وبأسلوب نقدي يستحضر الثقافة الموسوعية والفهم الكبير للواقع والناس والعالم.
يقسو الشاعر أحمد مصطفى سعيد في الديوان على نفسه كثيرًا، أو ذلك ما يتراءى لنا ونحن نقرأ بعض قصائده في الحب والعشق والجنون العاطفي. يقسو على نفسه كإنسان عاشق وليس كشاعر؛ يبكي بحرقة المحب الذي يعيش الوحدة القاتلة يندب حظه العاثر، يتلهف للقاء الحبيب، حتى يعلن في النهاية شركه وكفره في العشق ويتقبل الظلم من فقهاء القبيلة ونفاقهم؛ يقول في قصيدة «نزف الروح»:
(1)
بكاني الوجعُ يا قُرَّة القلْبِ
فلا تُطيلِي الهجْرَ
وإذا لاحَ في ساحَةِ الرّجاءِ طيْفِي
فانْثُرْ عطْركَ
ودمْعَ الغفْرانِ
سلامًا.
(2)
لا لوْمَ عليْكَ
ولا عِتاب
فقَطْ أنتَ عاشِقٌ
والعاشِقُ على كلِّ خطْوةٍ
يُثابُ في القرْبِ والغِيابْ.
في قصائد الديوان نجد بروزًا واضحًا للجوار بين الشاعر ونفسه، بين ذاته كشاعر مبدع وبين ذاته كإنسان يتأثر بالواقع والحياة وآمالها وأحزانها، حيث يصطدم بها اصطدامًا قويًا يجعل من قصيدته الشعرية نتاجًا ساخرًا ومؤلمًا في آنٍ. وهذا ما يتأكد لنا بعد الانتهاء من قراءة الديوان، حيث نسجل تلك العلاقة القوية بين جميع القصائد/ النصوص الشعرية وكأننا أمام تجربة شعرية حياتية بامتياز.
يهتم أحمد مصطفى سعيد في شعره بروح القصيدة وبلغتها الفائضة بالحنان والشوق والألم والمعاناة وبالتدفق القوي للمشاعر والأحاسيس؛ حيث تتشكل هندسيًا وتشكيليًا لنسج بنية نصية خالية من العيوب. حقيقة، هناك اشتغال كبير على اللغة وعلى النص الشعري، وتحرر من رقابة الذات والسلطة بكل أشكالها، لأننا أمام شاعر متمرد على الصيغ التقليدية شعرًا وثقافة. فقراءة الديوان تجعلنا ندرك أن هناك سلطة معينة يمارسها الشاعر، سلطة على القارئ المتلقي يصعب إدراكها ببساطة، سلطة شعرية تفرض على المتلقي استحضار الشاعر المؤلف أثناء عملية القراءة وجعله سيدًا وموجهًا له بشكل أو بآخر؛ حيث نقرأ في قصيدة «يدٌ في الظلام» ما يؤكد على ذلك:
إنْ لمْ تشاغِبْ
وتتشَفَّعْ بدمْعِ القلْبِ
لرَبِّ السمَاءِ
فالمَددُ
غالِبٌ
أيّها الشّارِدُ حيرَة
ملعون الخَوْف
العجْزُ
فلا تبارِكْ رِيح الفقْدِ
انْظرْ للنخِيلِ كمْ شامِخٌ
واضْحكْ ملْءَ فِيكَ
قُلها هيَ نسِيمٌ عابِرٌ
عُدْ يا صغِيرِي
واغْنمْ طِيبَ اللُّقَا.
ينقل الشاعر العالمَ ورؤيته له في عمقه، كما ينقل لنا الواقع وأناسه في جوهره وعلاقاتهم العامة والخاصة، مقحمًا نفسه بينهم؛ فلا يصير الحلم بالنسبة إليه نقيضًا للحزن والقلق والأمل في آنٍ واحد. كما لا يصبح الموت وجهًا مختلفًا للحياة، بل غاية لها وهدفًا نهائيًا يصل إليه المرء مهما عمَّر طويلًا. إن قصيدته اكتشاف للعالم والناس والذات، اكتشاف حقيقي للأشياء والمواقف الممتدة في الزمن والمكان، اكتشاف للحقائق المغيبة باسم عناوين خادعة وكاذبة وممارسات تخرق الصمت والهدنة والسلام والأمان، اكتشاف للفعل الإنساني المدمر للعلاقات والمشاعر والقيم.
إن قراءة قصائد الديوان تجعلك تشعر وكأنك في غمار تجربة حياة متمددة ومكثفة فعلًا وقولًا؛ وكأن للحياة أثر عميق في لا وعي متلقيه. إننا بصدد شعر يهدف إلى تقديم شهادة في حياة الشاعر والناس معًا، شهادة تعطي الإمكانية للمتلقي لفهم هذه الحياة والإفادة منها بشكل إيجابي. إن القصائد المكونة للديوان تمثل في ارتباط بعضها ببعض، والتعالق فيما بينها بشكل أو بآخر، تؤكد أنها تشكل في النهاية قصيدة واحدة تعبر عن آمال وطموحات وتحديات وآلام وأحزان الشاعر نفسه من خلال تعبيره القوي عن هذه المشاعر بلغة مثيرة وزاخرة.
الحب: هوية شاعر
يؤسس الشاعر وجوده الإبداعي على أساس وحدة الحب والرغبة، الحب العذري والرغبة المشبعة بتحقيق المتعة واللذة، حيث نلاحظ في بعض قصائد الديوان ميله نحو التصريح واكتشاف الطرف الآخر؛ يقول في قصيدة «مجذوب عشق»:
ضحكًا بالعشْقِ فوّاحًا
اقْبلْه ومزِّقْ كلَّ عذولٍ
يباعِدُ لهفَاتِ الوصْلِ
عقْد خلاخيل شَفِيف الإزَارِ
بارِكْ بصَهْد الشّوْقِ
قوتَ الثّغْرِ
وعاجَ السَّاقِ
تنسَاقُ اللهَفاتْ.
تبرز التناقضات والتفاصيل المتضادة في قصيدة الشاعر، حيث يعمل على خلخلتها رمزيًا وإيحائيًا باعتبار ذلك بعدًا دلاليًا يعيد النظر من خلاله في مفهوم الحب ورؤيته له ثقافيًا. وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الشاعر يمارس الصمت المشوب بالبوح الشعري الرافض والمعارض للنظرة السائدة في مجتمعه عن الحب عمومًا. فالحب عنده هو العشق الفواح المصحوب باللهفة والرغبة الصريحة من المحب العاشق تجاه طرفه الآخر ضدًّا في النظام الثقافي الذي يعيش في كنفه.
تأتي هوية الشاعر أحمد مصطفى سعيد في كونه يؤمن بالوحدة الثقافية للحب المشوب بالصمت، بالحب المعبر عنه بالفعل وليس بالقول الفاضح؛ فيعيد تأويل هذه الهوية المتشظية من أجل إعادة صياغة الثقافة الرومانسية العربية التي أفرطت مؤخرًا في تكريس المادية الجسدية وجعلها الهوية المركزية للمجتمع عمومًا.
تمثل شخصية نُهى تلك الهوية التي يبحث عنها الشاعر، حيث تشكل بالنسبة إليه الملجأ الدافئ والمكان الجميل الذي يستغرق فيه أحلى أيام عمره. يقول عنها في قصيدة «نهى تراتيل شجن»:
أنتِ هناكَ حبيبَتِي
وأنا هنَا
وخطَايَ قصِيرة
وروحِي فاتنتِي بُراقْ
مرتِ السنَواتْ
أتذْكرِين صدْفة اللقَاء
وتراشُق العيْنيْنِ محبَّاتْ.
هذا الحب واللهفة إلى الحبيب والحنين إليه هو بمثابة إضاءة للشاعر، وإنارة لحياته الباقية؛ بل إنه أكثر نقاوة في واقعه الصعب الذي يعاني فيه من الغربة، غربة الحب. وكأن الحنين هنا رمز للبقاء والاندماج مع الذات الشقية والمشتاقة إلى حياة ملؤها السعادة والفرح والأمل بالوجود والبقاء. فمهما تمر السنوات أو ينقضي العمر فإن الحنين إلى الحبيب يبقى هو المراد والغاية المثلى.
وأخيرًا، نقول إن ديوان الشاعر أحمد مصطفى سعيد «تجليات الصمت» يحتفي بالحب والعشق في بعديهما الدلالي والثقافي، باعتباره كتابًا شعريًا يستنطق أفكار الشاعر نفسه، ويستفز القارئ المتلقي فكريًا ونقديًا بشكل قوي، وإدراك لغته الشعرية الجميلة.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي