د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإنسان الحالي واحد من أناس كثيرة، ويقول المؤمنون بنظرية داروين في النشوء والتطور أن جميع الأناسي انقرضت ما عدا الإنسان الحالي، المسمى الإنسان العاقل أو هيومن سيمن، ومن حقنا أن نتساءل إن كان وصف العاقل ينطبق علينا نحن البشر الحاليين، ونومن بأننا من نسل آدم وحواء، ونعترف أيضا أننا لسنا ملائكة، فنحن نخطي ونصيب، وندرك ونغفل، لكن ما يستحق البحث والدراسة حقاً، أن ذلك الإنسان الذي يطلق عليه عاقلاً يحمل بعضاً من أفراده على مر العصور رزمة من الحقد، والحسد، والغدر، وتعذيب الآخرين، وقتلهم، أو السعي في ذلك، مع أن البشر جميعا يرون ذلك من مساوئ الأخلاق، وهذه الصفات السيئة تدفع بالبشر إلى العداوة والبغضاء والاقتتال، والاستمرار في ذلك، يقول الشاعر:
كلُّ العداوةِ قد تُرجى إماتتُها
إلّا عداوةُ من عاداكَ من حسَدِ
أما ابن زيدون يقول عن حاسديه في اختصاصه بحب ولادة:
غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا
بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهرُ آمينا
فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا
وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا
وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا
فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا
ويقول وهو في سجنه يشكي حاله إلى صديقه الوزير أبي حفص بن برد:
أَذْؤُبٌ هَامَـتْ بِلَحْمِي
فَانْتِهَـاشٌ وَانْتِهَـاسُ
كُلُّهُمْ يَسْـأَلُ عَنْ حَا
لِي وَلِلذِّئْبِ اعْتِسَاسُ
أما عمر بن أبي ربيعة، فيقول:
حَسَدٌ حُمِّلنَهُ مِن أَجلِها
وَقَديماً كانَ في الناسِ الحَسَد
ويذكر أبو حيان التوحيدي في كتاب الذخائر والبصائر، وهو كتاب فيه الكثير من الخلط بين الصحيح والسقيم، أن عبدالملك بن مروان، سأل الحجاج، كيف يرى نفسه، فقال: حقود حسود كنود، أما أنا فلا أظن أن رجلا سيصف نفسه بهذه الصفات، إلا إذا كان على سبيل المداعبة.
لقد بدأنا بهذا للمآنسة فحسب، لكن ما يؤلم حقاً هو تلك الحروب المستعرة منذ بداية التاريخ، وما قبله، وكان الإنسان يستخدم ما لديه من أدوات قتل مثل رمي الحجر، ثم المقلاع، حتى الوصول إلى المنجنيق والمدفع والدبابة والطائرة، إلى وقت قصير، لكن ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية أمر جديد مقلق حقاً، ولا بد أن نحكم على الإنسان إن كان عاقلاً حقاً أو غير عاقل، وما نراه ونسمعه في الفترة المتأخرة يظهر لنا أنه غير عاقل، فقد بدأ السلاح النووي بدولة واحدة، وتم استخدامه للمرة الأولى والأخيرة، ثم تم امتلاك السلاح النووي من دولة منافسة، ثم دول أخرى في أوربا، وآسيا، والشرق الأوسط، مع أن هناك قراراً أممياً بأن يكون الشرق الأوسط خالياً من السلاح النووي، كما أن هناك معاهدات لعدم انتشاره، أو استخدامه، وإنما يكون للردع فقط، ومن ثم نزعه، لكن ما حدث فعلاً في الواقع أصبح غير ذلك، توسع في عدد الدول التي تمتلكه وتطوير القدرة التدمرية، وزيادة في المخزون، ثم التلويح باستخدامه، ولا نعلم ماذا سيقع بعد ذلك؟ لكن إذا وقعت الواقعة، فلن يكون هناك بشر، أو شجر، أو حجر، وسيبقى كوكبنا مليئاً بالأشعة التي لن تسمح بحياة جديدة أن تقوم إلا بعد آلاف السنين.
في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر الحالي عام 2022، أي قبل بضعة أيام، وصل إلى مسامعنا بعض من الأخبار المتعلقة بالتسلح من قبل عدد من الدول، ففي الغرب زادت دولة كبرى من ميزانيتها، وعزا البعض ذلك إلى التضخم، وزيادة في الأجور، واستبدال المخزون الذي تم استخدامه في حرب معينة، ومجموعة من الدول الغربية زادت من إنفاقها العسكري، وفي الشرق أعلنت دولة أنها سوف تغير من عقيدتها العسكرية التي كانت سائدة منذ الحرب العالمية الثانية، وأصبح في إمكانها مهاجمة أي دولة ترى فيها خطراً عليها، كما قررت مضاعفة ميزانيتها العسكرية، ودولة أخرى في الشرق، ادعت أنها توصلت إلى صناعة محرك للصواريخ البالستية فائقة القدرة، ليس له نظير من قبل، وأنه يعد تطوراً غير مسبوق.
هذه المعلومات التي طرقت مسامعنا في فترة وجيزة، تنبئنا بأن الإنسان ما زال لم يستشعر ذلك الخطر الذي يحدق به من تلقاء نفسه، وبني الإنسان أضحوا لا يتسابقون لأجل البقاء، بل لأجل الفناء، الذي أصبح أمراً محتوماً مع الاستمرار على هذه الحال دون تغيير جذري في الأخلاق، وفي الفلسفة المتعلقة بالعلاقات الدولية، وبالنفس البشرية، ومفهوم الصراع، ومفهوم المنافسة، والبعد عن الميكافيلية في العلاقات الدولية والتي سبق وأن استخدمت في دهور خلت، والتي لا يمكن قبولها في زمن توجد فيه قنبلة ذرية قادرة على فناء البشرية في بضع دقائق.