محمد بن عيسى الكنعان
ما بنته هوليوود وأخواتها من المؤسسات الغربية السينمائية عن العرب خلال قرن في الوعي الجمعي الغربي، وامتد عالميًا؛ تشويهًا وتزييفًا واستحقارًا هدمه مونديال كأس العالم في قطر2022م, عندما اكتسح اللباس الخليجي المدرجات بألوان المنتخبات، وصار البشت رمزًا للتفوق وعنوانًا للسمو بعد أن صوّره الغرب لعقود عنوانًا للتخلف والرجعية في أفلامه السينمائية. أما إبراز القيم العليا لأية أمة فقد تجلى في خلو المونديال من مشاهد العهر والتفسخ، بمشاهد ألوان الشواذ (المثليين)، أو السكارى في الطرقات والملاعب، أو المظاهر الفاضحة.
ما تم ذكره ليس إلا جانبًا من الصورة الاستثنائية في كأس العالم، كونها كانت مدار أحاديث الناس أيام المونديال، وهي في ذات الوقت لا تفضح الغرب على (المستوى الإنساني) فحسب، الذي لازال يعمل على تكريس انتكاسة الفطرة لديه باعتبارها أنموذجًا جديدًا للحياة بدعم الشواذ، إنما تفضح الغرب على (المستوى الحضاري)، كونه يحاول أن يجعل قيمه الإنسانية، ومبادئه الحضارية هي المعيار الأوحد لتقدم الأمم وعناوين نهضتها على مستوى شعوب الأرض ودول العالم, وهذا ظهر في الحملة الشرسة والمسعورة، التي شنتها مؤسسات الغرب - إعلامية ونخبوية - على مونديال كأس العالم في قطر 2022م، بل سعت حكومات غربية إلى محاولة إفشال المونديال؛ لأجل تكريس هيمنة الغرب على المحافل الدولية الكبرى، وتأكيد مزاعم أن العرب أو شعوب الشرق الأوسط عمومًا لا يملكون فكرًا، ولا يُجيدون عملًا، ولا يقدرون على تنظيم محافل دولية, رغم أن المملكة منذ تأسيسها وهي تتقن سنويًّا إدارة حشود وتنظيم أكبر موسم ديني على مستوى العالم بكل انسيابية ونجاح.
في هذا المقال تحديدًا؛ قد نتجاوز الحديث عن أزمة الغرب في تصوره للبعد الإنساني في تفاصيل الحياة المعاصرة، كونه تصوراً ينطلق من مرجعية الليبرالية المتوحشة، التي تجاوزت حدود الفطرة السليمة، وانقلبت عليها حتى نزلت بالإنسان في علاقاته الاجتماعية إلى ما دون الحيوان - أعزكم الله - فهدمت المعيار الحقيقي للعائلة، القائم على ثنائية الذكر والأنثى وتكاملهما كما خلق الله، إلى ثنائيات متعددة موحلة بالقذارة والانحطاط والعياذ بالله. مع ذلك نقول هذا خيار الغرب، وهذا درب حضارته التي تحتضر اليوم على مستوى النموذج، إنما أزمة الغرب الفعلية تكمن في واقعها على المستوى الحضاري، عندما يعمل هذا الغرب المتفسخ على تكريس فكرة أن قيمه ومفاهيمه ومبادئه المرتبطة بكل شؤون الحياة بشتى مجالاتها، هي المعيار الأوحد والنموذج الأفضل، الذي يجب على كل أمم الأرض وشعوبها أن تقيس صوابية شؤون حياتها من خلاله, وعندما نقول أزمة؛ فلأن الغرب يعيش حالة من ازدواجية المعايير في مزاعمه عن (التعددية الثقافية) للشعوب والدول.
فالغرب يُطالبك أن تلتزم بقيمه وقوانينه المنبثقة عن تصوره الليبرالي للحياة عندما تكون في مناطقه الجغرافية، وتعيش في مجتمعاته الغربية بحجة التعددية الثقافية، وأن عليك كمسلم أو عربي أن تتقبل ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه، حتى لو استغلت حكومة هذا المجتمع هذا الموقف في حرمانك من أبسط ممارسات حريتك الدينية بحجة علمانية الدولة, الغرب يقول عليك أن تقبل بذلك بحجة (التعددية الثقافية)، بمعنى تعيش وفق ثقافتهم، سواءً كنت مقيمًا أو لاجئًا وحتى سائحًا, لكنه ينسف هذه التعددية خلف ظهره عندما يأتي إليك ويشاركك محفلًا أو حدثًا عالميًّا في بلدك وعلى أرضك, وهذا ما حدث فعليًّا في مونديال كأس العالم في قطر 2022م. لم يأتِ الغرب مشاركًا بالبطولة، بل مستعمرًا للثقافة، جاء يفرض عليك أجندته ومفاهيمه وقيمه’ جاء يُحيّد تعاليمك الدينية، ويُلغي قيمك الاجتماعية، وينسف تراثك الحضاري، تحت زعم التعددية الثقافية، وهو هنا لا يمارسها، بل هو في واقع الحال يُزيح ثقافتك ويضع ثقافته، التي تقوم على مرجعية حضارية ومنطلقات إنسانية مختلفة، فضلًا عن العادات والتقاليد المجتمعية. والأدهى أن التزامك بقيمك وثقافتك وتطبيق القوانين في إطارهما اعتبره تعديًا على حرياته العامة، وهذا ما عبّر عنه المنتخب الألماني الذي ظهر لاعبوه يضعون أيديهم على أفواههم إشارةً إلى حرمانهم من حرية الرأي والتعبير، بل إن وزيرة داخليتهم التي يُفترض بها التزام القوانين وأول من يطبقها تحايلت خلال إحدى المباريات لمنتخب بلادها لإظهار شارة الشواذ (المثليين), حتى أن أحد الإعلاميين البريطانيين تحدث مستغربًا إزاء موقف الغرب تجاه قطر لتجريمها المثلية في المونديال، بأن بريطانيا - بلده - قد جرّمت المثلية عام 1966م عندما استضافت مونديال كأس العالم، وهو بهذا يشير إلى التناقض وازدواجية المعايير.
الجميل في كل ما حدث أن الذين سخروا من الموقف الغربي بدعوى نقص أو كبت الحريات في المونديال هم الجماهير الحاضرة وبالذات غير العربية، التي استشعرت قيمة الثقافة العربية والإسلامية ورقيها، وانعكاس قيمها الإنسانية الرفيعة على أجواء المونديال والتعاملات والعلاقات الإنسانية فيه، بل وعبرت عن ذلك بمقاطع ومشاهد وتعليقات ضجت بها منصات التواصل الاجتماعي، فضلًا عن وسائل الإعلام التقليدي.