د. تنيضب الفايدي
قديد.. قرية تاريخية أصبحت حالياً بلدة صغيرة معروفة لدى الجميع على الطريق السريع بين المدينة المنورة وكل من جدة ومكة المكرمة وتقع في وادي باسمها أي: وادي قديد، ولم تذكر قديد في أي فترة تاريخية بأنها مصدر يتم التزوّد منه، وإنما تذكر بالاسم وأحياناً يتم ذكرها صراحةً بأنها من الأماكن التي لا يجد المسافر ما يسد رمقه في هذه القرية، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرّ بها أثناء هجرته نزل على أم معبد وهي بقديد، لم يجد عندها حتى اللبن، فنظر إلى شاة في كسر الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها وامتلأ ضرعها باللبن فحلب منها وسقى أم معبد وأصحابه وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرهم ثم حلب مرة أخرى حتى ملأ الإناء وتركه عندها حتى جاء زوجها أبو معبد فتفاجأ بوجود اللبن والقصة معروفة. السيرة النبوية لابن هشام (2/ 264) وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا». البداية والنهاية (3/ 188).
واكتسبت قديد شهرتها بأنها معبر من فجر التاريخ، حيث مرّت عليها قبائل قبل انهيار سد مأرب وبعده، كما مرّت عليها قريش بتجارتها الصيفية وتقع قديد على جادة الطريق المعروف قديماً بدرب الأنبياء وعرف أخيراً بالطريق السلطاني ولعل اسم قديد من قدد أي: طرق مختلفة، أما قول المؤرخ ابن الكلبي: (إنه لما رجع تبع من المدينة بعد حربه لأهلها نزل قديداً فهبت الريح قددت خيم أصحابه فسمّي قديداً قديداً) فيظهر أن تسمية تبع لا عبرة لها لأن هناك تسميات في المدينة وفي طريق تبع تظهر سذاجة لا يعتد بها، فمن هو تبع الذي زار المدينة؛ لأن كلمة تبع لقب لحاكم اليمن مثل كسرى وفرعون وهناك شك في صحة زيارته للمدينة، واشتهرت قديد بأن الجزء الجنوبي الغربي منها ويطلق عليه المشلل به صنم مناة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) ومناة معبود الأوس والخزرج قبل الإسلام يأتون إليه من المدينة وتشارك في عبادته قبائل أخرى مثل خزاعة وهذيل والغساسنة، وتعظمه قريش أيضاً، أما صنم اللات بالطائف فهو لثقيف وقريش، والعزى بنخلة بالقرب من مكة (الشرائع) ومجموعة من الأصنام بمكة أيضاً منها: هُبل، ونائلة، وإساف، يطلق عليها الغرانيق وكانت قريش تقول في طوافها حول الكعبة: (واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فإنها الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) وذلك ضلالة من قريش، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} سورة نوح الآية (23)، وصنم ود من أعظم الأصنام (الآلهة التي تعبد من دون الله) فهو في الحجر ووادي القرى (العلا حالياً) وتدين له القبائل التي تسكن تلك الجهات بما في ذلك تيماء واكتشفت منه نسخة أخرى في العيص أي: أن قبيلة جهينة تعبده في الجاهلية، إضافةً إلى عبادة سواع الذي حدد مكانه في ينبع النخل ولم تكتف تلك القبيلة بعبادة هذين الصنمين بل - كما تذكر بعض المصادر – عمدت إلى بناء كعبة في الحوراء، وجاء البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله وأزيلت تلك الأصنام جميعها والحمد لله، ولم تأت السنة العاشرة إلا وقد أزيلت من أماكنها.
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى قديد وهي سرية غالب بن عبد الله الليثي. مغازي الواقدي (2/ 750/ 752)، كما يأتي ذكر قديد في غزوة المريسيع (بني المصطلق)، كما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية لقادته في غزوة الحديبية في قديد حيث يقول الشيخ باشميل: «والأكثر ترجيحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بجيشه من المدينة على غير تعبئة وأنه لم يعبئه ويكتب كتائبه ويوزع راياته على قادة الألوية إلا عندما وصل إلى قديد بديار حلفائه خزاعة؛ لأن الجيش لم يكتمل عدده إلا في قديد حيث وافت النبي صلى الله عليه وسلم بنو سُليم في ألف فارس يقودهم سيدهم عباس بن مرداس السلمي، وهم آخر قوة من قوات البادية التي انضمت إلى الجيش النبوي وهو في طريقه إلى مكة.