علي الخزيم
أن تجد إنساناً مثالياً يتمتع بأعلى القيم الإنسانية وأشرف السجايا وأرفع الأخلاق؛ فهذا يبدو من الخوارق إذا استثنينا المعصومين ممَّن وهبهم الله سبحانه وأكرمهم برفع شأنهم وذِكْرهم بين الأمم، غير أن مَنْ حَضي بقدر عالٍ من سمو الأخلاق والمروءة ورقي التعامل وحسن الجيرة فهم الآن - كما يُقال - قلة بين البشر؛ وذلك قياساً بمواقف وقصص تروى بما يُدوَّن ويُكتب ويُحكى بالكتب والمجالس وبمواقع التواصل الاجتماعية، وما الاستشهاد شعراً ونثراً بمآثر أفراد وجماعات من أجيال وحُقب مَضت إلا للإشادة بهم والدعوة لترسُّم خطاهم إلى هذه المكارم النبيلة، وليست للادعاء بأننا كما هم؛ أو كأحفاد لهم نتمسك تماماً بتلك المآثر والمحامد التي تميزوا بها، وإن كان المفترض والأجدر أن نكون كذلك؛ غير أن الواقع والمُشاهد ينبئ بغير المأمول، وأن كل القصص والروايات الجميلة التي يتناقلها السُّمَّار بالمجالس بهذه المعاني الحميدة لم تكن ذات أثر ملموس ولم تصل رسائلها المُوجَّهة للمجتمع إلى القدر المتوقع منها، وأن الإيجابية الوحيد الثابتة من هذه الروايات هي أنها لم تُمْح من الذاكرة بصورة كاملة، فبقايا ذكريات (الطيبين) ما زالت تشعرنا أننا - ولله الحمد - بخير، وأننا مع هذا نرجو ونتطلع للمزيد. ومَبعث هذه التأملات هو سلوك راقٍ وحميد ومُحبب لجارٍ كريم لطيف لا يَفْتُر ولا يَكِل من جميل الحفاوة والمُجاملات الرقيقة والتلميحات الإنسانية البليغة لكل من حوله، وأحسبه - رفَع الله قدره - قدوة يُحتَذى بها، ومُعلِّماً لغيره بمحامد السلوك ورفيع الأخلاق، يَتمثَّل ما وصَّى به رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من إكرام الجار والبعد عن كل ما يؤذيه، فهذا الرجل النبيل أبو محمد - كما عرفته - لا يمكن برأيي أن تُوحِي له نفسه يوماً لإيذاء أحد من البشر؛ فمن كان مثله يملك بين جوانحه أنبل المشاعر وأرقى الأحاسيس فهو بالطبع سبَّاق للخير مُجتنب لما يُدنس مروءته وخلقه الرفيع، فأكرم به من جار؛ وأنعم به من إنسان مؤمن يترسَّم خُطى الأكارم وما تعلَّمه وتربى عليه من آبائه وأجداه الأفاضل.
يقول ابن الوردي:
(جاورْ إذا جاورْتَ بحراً أوْ فتى
فالجارُ يَشرفُ قدرُهُ بالجارِ)
وقال الشافعي بفضل حق الجار:
(ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه
وصاحبه الأدنى على القرب والبعد
يَعِش سيداً يَستعذِب الناس ذِكْره
وإن نابه حق أتوه على قصدِ)
والشاعر إلياس فرحات يخاطب جاراً له ربما وجد منه صدوداً لا يعلم سببه:
(فِيَم التقاطع والأوطان تجمعنا
قُم نغسل القلب ممَّا فيه من وَضَر
ما دمت مُحتِرمًا حقي فأنت أخي
آمنت بالله أم آمنت بالحجر)
أما الشاعر ابن حيوس الغنوي فلعلَّه لمس من جاره ما لا يرضيه؛ فقال قصيدة منها:
(من جاور الأُسد لم يأمن بوائقها
وليس للأسد إبقاء على الجار)
وأختم بما قاله لقمان الحكيم رضي الله عنه: (حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء)!
فاحمد الله على حسن الجيرة وطيب الرفقة.