د. محمد بن عويض الفايدي
الوطن العربي له خصائص وسمات قيادية واجتماعية مشتركة من أبرزها قيادة المجالس العربية لدفة شؤون الحياة اليومية في الحياة الاجتماعية للأسرة العربية، والتي تُعد ظاهرة اجتماعية بارزة في البيئة العربية، والمجلس أو الديوان أو الديوانية أو المدهل جميعها مفاهيم متعارف عليها بأنها المكان المخصص لاستقبال الضيوف ولقاء الأقارب والجيران والزملاء والأصدقاء، ومحل إكرام الضيف، ومحطة الالتقاء لمناقشة الأحداث وتبادل الأحاديث والسمر والترفيه، ولمعالجة جوانب مهمة تتصل بشؤون العشيرة والعائلة والأسر والأشخاص واتخاذ بعض القرارات بشأنها، وهي حاضنة التدريب وميدان إعداد القهوة العربية وتعليم القيم والمبادئ وتناقلها بين الأجيال، ففي ظل هذه المسلمة هل المجالس العربية حاضنات تفكير تضاهي مراكز التفكير الغربية؟
يحتفظ الديوان «المجلس» العربي بأهميته الجوهرية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية في الأمة العربية، وتخصص له أكبر غرفة وأجمل إطلالة في المنزل العربي وتؤثث بأفضل الأثاث وتُفرش بالسجاد الفاخر والأرائك الوثيرة. ويُعد أحد أهم أدوات قوى الضبط الاجتماعي، والمنهج الإداري والتسلسل القيادي. ويعتبر الساحة المهنية المهيئة للتواصل المباشر بين الأفراد والجماعات ومحطة للترفيه والتسلية واستراحة فندقية في الزمن الماضي، والمرجعية الأصيلة للكثير من القرارات ذات العلاقة بالشأن الخاص والعام. وتركيبة وسياسات ومنهج الديوان «المجلس» العربي وفلسفته أشبه بمراكز التفكير والصالونات والمنتديات والنوادي الأدبية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي تدار فيها النقاشات والحوارات.
الديوان «المجلس» العربي له وظيفة شمولية ودور محوري تُستعرض فيه الأحداث والحوادث وأوضاع الشأن العام والخاص وأسعار السلع والخدمات، والمواقف والمشاهد التي يتعرض لها الأشخاص والآليات التي تم بها التعامل معها. وتُعد مصدرًا مهمًا لأخبار المجتمع وأحداثه ومناسباته الدينية والاجتماعية، وقاعة عدلية لإقامة العدل وتطبيق مفهوم القضاء المستند على العرف، ومنصة لحل المشكلات وفض النازعات، وملتقى اقتصادي مفتوح للتجارة وعرض السلع والبيع والشراء، وحلبة للمشاورات والمداولات والمراهنات والمشاراهات والمقاضاة في الحقوق الاجتماعية الناجمة عن الاختلافات في وجهات النظر والتجاوزات فيما بين الأفراد، وواجهة للحراك المجتمعي في صورته التلقائية، ومعيار لقياس اتجاهات الرأي العام ووجهات نظر أفراد المجتمع حيال القضايا التي تشغله. ويعتبر الديوان مؤسسة اجتماعية من مؤسسات المجتمع لها وظائفها وأدوارها في المجتمع وفي حياة وشؤون الناس العامة والخاصة ولها قيم تحكمها ومبادئ تهتدي بها وتقتدي.
صناعة القرار المناسب يعتمد اعتمادًا كليًا على إعمال التفكير المتعمق في التحليل، ودقة وحداثة بيانات ومعلومات مرجعيته، وكفاءة التقنية الداخلة في إعداده، ومهارة الكادر البشري الذي يؤسس له، ومحصلة ذلك كله حاضنة بحثية بأدوات عصرية تواكب التطورات وتستقطب المتميزين من الباحثين والخبراء ذوي التجارب والمواهب.
القرار الحرج في الأزمات صناعته أكثر تحديًا، ذلك لأن مدخلاته على درجة عالية من الحساسية والسرعة والضبابية في المزج بين المتغيّرات وحساب الفرص والمخاطر بمنهج علمي صارم يأخذ بالأبعاد كافة، ويراعي كل الظروف والشروط، ونتائجه حاسمة في التطبيق والتنفيذ.
قدرة مراكز التفكير على دعم القرار يُبرهن عليه واقعها الذي يتجلى في إحصاءات عام 2021م التي تصدر سنويًا عن معهد «لودر» التابع لجامعة بنسلفانيا الأميركية والمعروف بالتصنيف السنوي لمراكز التفكير (Think Tanks)، ومراكز التفكير هذه عبارة عن مؤسسات تهتم ببحوث السياسات العامة، وتعمل على توفير وتحليل وعرض المعلومات بمنهجية موثوقة تستشرف المستقبل وتستشف التوجهات، وترصد المواقف، وتتوقع مسارات المشاهد، واتجاهات الأحداث، وتُعين صنَّاع القرارات على اتخاذ المناسب منها.
يُحدد التصنيف أفضل مراكز التفكير على مستوى العالم، أو على مستوى مناطق محددة، وقد شمل التصنيف (7500) مركزاً مسجلاً لدى «برنامج مراكز التفكير والمجتمعات المدنية» (TTCSP). تم اختيار نحو 300 مركز في التصفية النهائية.
تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بنحو 1871 مركزاً ثم تأتي الهند في المرتبة الثانية بنحو 509 ثم الصين في المرتبة الثالثة بنحو 507 مركزاً، وبعد ذلك بريطانيا في المرتبة الرابعة بنحو 321 مركزاً، ثم في المرتبة الخامسة الأرجنتين بنحو 227 مركزاً. ثم تأتي حسب الترتيب ألمانيا وروسيا وفرنسا واليابان وايطاليا. وفي هذا الإطار الذي يوحي بالمنافسة وأهمية مراكز التفكير في التأثير نجد لدى
«إسرائيل» 69 مركزاً. وإيران لديها 64 مركزاً، ولتركيا 31 مركزاً. وفي هذا السياق نجد أن مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأمريكية تصدرت قائمة التصنيف، حيث جاء معهد بروكينغز (Brookings Institute) في المرتبة الأولى عالمياً، ومركز كارنيجي ثالثاً، ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) رابعاً، وراند سابعاً، ومجلس العلاقات الخارجية (CFR) ثامناً، ومركز وودرو ويلسون عاشراً. وتحظى مراكز التفكير الأمريكية بميزانية سنوية عالية فمثلًا مركز راند لديه ميزانية سنوية تصل إلى 263 مليون دولار وأكثر من 2000 مختصًا، ومركز بروكينغز له ميزانية سنوية بنحو 90 مليون دولار ونحو 530 موظفاً.
تأتي بريطانيا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية بمركزين ضمن العشرة الأولى هما شاتام هاوس (House Chatham) ثانيًا والمعهد العالمي للدراسات الإستراتيجية (IISS) تاسعاً. ولبريطانيا 8 مراكز ضمن الخمسين الأولى، وألمانيا 6 مراكز، والصين 4 مراكز، وبلجيكا 4 مراكز. أما اليابان وكندا وروسيا وكوريا الجنوبية فحظيت بمركزين لكل منها ضمن هذه المجموعة. أما على مستوى المنطقة العربية والإسلامية فقد جاء فرع مركز كارنيجي الأميركي بالشرق الأوسط في لبنان بالمرتبة 37، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بمصر بالمرتبة 51، ومركز إندونيسيا بالمرتبة 69، وجاء مركزان في تركيا بالمرتبة 74 و87، ومركز ماليزيا بالمرتبة 90، ومركز بنغلاديش بالمرتبة 97 .
وفي الوطن العربي يوجد في مصر 39 مركزًا وفلسطين 34 مركزًا والعراق 30 مركزًا ولبنان 27 مركزًا، والأردن26 مركزًا واليمن كذلك 26 مركزًا، وأقلها في ليبيا 2 مركزًا. في حين أن عددها في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي بلغ في الكويت 15 مركزًا وفي قطر14 مركزًا، وفي البحرين 12 مركزًا، وفي الإمارات 9 مراكز، وفي المملكة العربية السعودية 8 مراكز وفي سلطنة عمان 3 مراكز.
شاركت مراكز التفكير السعودية في هذا التصنيف بـ7 مراكز دراسات وطنية لم يدخل منها ضمن مؤشر التصنيف العالمي غير مركز واحد هو مركز الخليج للأبحاث الذي حل في المرتبة 125 عالميًا والمرتبة 8 على مستوى الشرق الأوسط.
تحظى الدول والاقتصادات الكبرى بأكثر عدد من مراكز التفكير. ويبدو أن مراكز التفكير المؤثرة عالميًا تستأثر بدعم مادي ومعنوي ولوجستي سخيًا من القطاع الحكومي والخاص إيمانًا بدورها الفعال في دعم القرار، بينما تفتقر مراكز تفكير الدول العربية والنامية للدعم المناسب، مما يجعل دورها محدودًا في توجيه وصناعة القرار، ولذلك يظل القرار ضبابيًا.
تتلخص مرتكزات مراكز التفكير في بيئة بحثية ملائمة تحددها الشروط والظروف اللازمة لبحث علمي رصين يتضح فيه هدف ومهمة كل مركز تفكير بشكل دقيق في تخصص معين أو عدد محدد من التخصصات على أن يتم تحديد نوع ومستوى التحليل. وإرادة وطنية جادة تؤمن بأن القرار المنتج بفكر حتمية لا يمكن تجاوزها، وأن مصدره مراكز تفكير مجهزة بأحدث التجهيزات والتقنيات. وكذلك مجموعة مختارة بعناية من الباحثين والمبدعين والأكاديميين والخبراء والمفكرين، مع أهمية المزج بين العلم والمعرفة والخبرة والممارسة العملية. وقيادة واعية تمتلك المبادرة، والتواصل الفعَّال مع مراكز التفكير العالمية، وتعمل على تحفيز الفكر والإبداع واستثمار العقول والجهود بدرجة عالية من الكفاءة. ودعم مالي سخي ميسر إجراءات الصرف يشترك فيه القطاعين الحكومي والخاص. وبيانات ومعلومات دقيقة وحديثة ومتاحة يمكن من خلالها إعداد السيناريوهات، والاستشراف والاستشفاف للمستقبل.
تتصف هذه المرحلة بأنها مرحلة القرارات الإستراتيجية الحرجة التي نتطلع إلى أن يكون لصنَّاع القرار إرادة جادة فيها بتعاون القطاع الحكومي والقطاع الخاص والشروع في إنشاء عدد كبير من مراكز التفكير الخليجية والوطنية التي لها أن تصل إلى أعداد تلامس الدول المتقدمة مع أهمية توفير الإمكانات المادية والبشرية والتقنيات وقواعد البيانات والمعلومات للولوج إلى مرحلة القرار الصائب الذي تدعمه مراكز تفكير وطنية تتبنى مناهج بحثية رصينة لصياغة ودعم القرار بفكر وتحليل متعمق تنصهر فيه العقول والتجارب والخبرات الوطنية باستيعاب المتغيرات واستشعار المخاطر وتقييم الفرص والتحديات تحت مظلة تُجتذب إليها التخصصات الفكرية والإبداعية، وتبرز فيها الميزات التنافسية التي تصنع من المعلومة ثروة ومن القرار تنمية بارزة المعالم تعكس الحكمة العربية والقوة الخليجية والريادة الوطنية التي تُؤسس لها المجالس العربية قاعدة راسخة تنطلق منها الأفكار والرؤى بممارسات تلقائية تحتاج لضبط إيقاع وتوجيه وتقنيين وتوثيق لمخرجات تلك المجالس، واستغلها في عطلة نهاية الأسبوع بحيث تٌخصص فترة ما بين العصر والمغرب لطلاب المرحلة الابتدائية والمتوسطة، وبعد المغرب لطلاب المرحلة الثانوي والجامعية لصقل المواهب وإعمال التفكير وبسط الحوارات الأدبية والفكرية والثقافية. وبالتالي اكتشاف الموهبة والإبداع في مراحل مبكرة والعمل على تنميتها وتوجيهها ودمجها في منظومة مؤسسية للفكر تصنع من هذه الميزة التنافسية والإبداعية للمجالس العربية قيمة فعلية تتخطى مراكز التفكير الغربية إذا ما تم استغلالها بمفهوم عصري يحاكي هذه التحولات السريعة المتلاحقة، ويناسب هذه القيمة العربية الفريدة عامة والخليجية خاصة.