د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
الأماكن في بلادنا وثيقة تاريخية ذات إشارات نسقية حيث تحمل الأزمنة مكثفة! وخرائط وجدانية تحملنا إلى نوع من المقاربات والمقارنات المخضلة بالبريق الذي ينقلنا من دراما المكان إلى توق العناق الوطني الممتد، وفيها تستريح الذكريات ففي كل طرح ومبحث يُمثّلُ قلب الوطن الكبير الذي يملأنا.
وشواهدنا هنا على ثرى الرياض الجميلة: مسارح الجلال والجمال، ومشاهد الحضارة، ومجالي الثقافة، ما انفكت تعقد أواصر الجمال في سياقات تترى، يجللّها الحراك الجميل في كل تفاصيل زمنها الجميل أيضا، والرياض نحفظ أسرارها في تلافيف الذاكرة حينما طاف بخيالنا السور القديم ورائحة الطين التي تنبعثُ من داخله فتنعشُ فضاءاتنا؛ وتنزوي حياله كل مصانع العطور التي تحتل العالم اليوم، وتسرد الذاكرة تسميات يباهي بها تاريخنا الوطني والشعبي، ومهما اقتربتْ الرؤى من الرياض الحبيبة واستدارت الزوايا فما زلنا نحتاج للذائقة العالية التي تواكب عشقنا للرياض لالتقاط متغيرات الرياض وتجدّدها وكيف استطاعت الرياض واستطعنا صناعة الانتقال إلى الحداثة والمدنية، فها هي الرياض تصحو على جمال متنوع شامل في كل شئونها يشد بعضه بعضا، فالثقافة بتشكيلاتها وتفاصيلها جمال، وكل محضن لحيازة المنتج الثقافي والحوار مع مرتاديه جمال آخر، وكل نافذة ضوء تسعد بمرور العقول عليها جمال، وكل الأمكنة التي تؤصل لتاريخ مجيد وبطولات خالدة ترويها جدرانها وبواباتها جمال آخر، فهناك في الرياض اليوم مناطيد جمال تحلق بالفكر وبالثقافة وتحتفي بكل المعارف الشاملة في الفنون والآداب؛ وكان هنا في الرياض مولد وزارة الثقافة لتكشف عن موارد بلادنا الثقافية؛ ومنها كنوز الرياض الملأى بالفرائد والمتفردين لتبني لهم متكآت تقيهم تصحر الفكر وضحالة الاستفادة من الإبداع وضمور الأوقات وعتمة الأماكن، فانبجستْ في الرياض الجميلة وفي منطقة قصر الحكم حيث البطولات وحيث الحكم السعودي الرشيد الذي شهد نسيج الأزمنة الفاخرة انبجستْ منصة ثقافية فاخرة (قيصرية الكتاب) لتهدي بسمة ثقافية جديدة تليق بدهشة المكان حين تربعت في منطقة قصر الحكم وفي مشهد مطل على قصر المصمك التاريخي؛ وبالقرب من ساحة الصفاة وساحة العدل وجامع الإمام تركي بن عبدالله والأسواق القديمة ودائما ما تحملنا ذاكرة الأمكنة وذاكرة الأسماء إلى «قيصرية الكتاب» تستقبلنا منابرها الثرة كل أسبوع لتستوقفنا تلك الفكرة المكتنزة لإهداء ذلك الفضاء الساكن حراكا ثقافيا مجزيا يحتفي بالثقافة في شموليتها وبالكتاب كمنبر ثقافي في مكان ينبض بسكونه في وجدان ملكنا سلمان وولي عهده والسعودية بمسئوليها وشعبها؛ ولقد أشرقتْ في وجدان الحضور آمال عريضة لحيازة وجود ثقافي مختلف؛ ومنذ انبثاق أنوار القيصرية بدا جليا للعيان استجابة ثقافية جديدة ببامج جاذبة للمؤلفين ليبثوا شجنهم ويقيموا مركزاً آخر لمرجعياتهم الوجدانية حيث احتضنتْ قيصرية الكتاب رؤى عشاق الكلمة الأنيقة، ووضعتْ للقوافي ديباجة وثيرة، وللرواية مجاز وموئل؛ وللكتاب الأول قصة ووشاح؛ ورسمتْ لعقول الأطفال فضاؤهم ومسترادهم فاستوفى في قيصرية الكتاب حضور مدهش في مكان مدهش في عهد سعودي مدهش، فإذا ما تأملنا مبدأ علمية الثقافة فهي خطاب من عقل مستنير مبدع، والجاحظ ذلك المثقف العباسي أول من أشار إلى أن الخطاب علم وثقافة حيث جعل مرد استشهاد الخطاب من الذاكرة، وجعله يرجع إلى الثقافة واتساع المعرفة، وكان يستخلص علوم النبات والحيوان من الأعمال الإبداعية، كما أن الفلاسفة المسلمين جعلوه يُخضع ذلك للتجربة والبرهان المنطقي. وهو ما يتوجب علينا من معرفة الأفق المعرفي المحبب للقاعدة العامة للعمل على تواصل جاذب لتحقيق ترابط البنية الثقافية والمعرفية بالشغف والذوق الاجتماعي وذلك عماد الثقافة فحسب!
بوح الختام
لا أحد يتكلم عن المكان بإلحاح كالشاعر العربي:
لك يا منازلُ في القلوب منازل
أقفرتِ أنتِ وهنَّ منك أواهل ُ