حمّاد بن حامد السالمي
* من نعم الله على عباده؛ أن جعل من الماء كل شيء حي، وأن جعل في السحب الممطرة؛ رحمة ورواء لكل أرض جرداء جافة، فمن أمطار هذه السحب المسيّرة؛ تسيل الأشعب والوديان كبيرة وصغيرة، فتتحرك من الجبال والهضاب والأشعب؛ إلى حيث الأودية والمنخفضات، لتأخذ طريقها نحو مستقر لها لا تفرّق بين أراض قاحلة أو مزروعة أو عامرة بالسكان، فتُنْعم بنفعها تارات، وتعم بضررها تارات أخر، ومن ذلك.. ما يأتي على شكل فيضانات جارفة تقتلع الحجر والشجر، وتأخذ في طريقها كل يابس وأخضر، وعشنا ورأينا بأعيننا سابقًا ولاحقًا؛ وما وقع مؤخرًا في مكة المكرمة وجُدة، حيث جاءت السيول المنقولة، فاخترقت الشوارع والزنقات، وأخذت في طريقها السيارات، وأسقطت بعض المنازل، وذهبت ضحيتها أنفس لم تحسب حسابًا لهذا الخطر الداهم، الذي تشكله سيول تبحث عن طريقها المعهود جغرافيًا، والذي غفل أو تغافل عنه الناس يوم بنوا الأبنية في بطون الأودية، وسدوا كل منفذ ومخرج لها، ولم يحسبوا ليوم آت، تتلبد فيه سماؤهم فتمطر، وتداهمهم سيول لا ترض إلا أن تأخذ طريقها الذي تعرفه دون غيره.
* تتميز مناطق مملكتنا الغالية؛ بالتنوع الجغرافي بين جبال شاهقة، وأودية ممتدة إلى مئات الكيلات، وبين سهول وصحارى مستوية. هذه الطبيعة؛ يعتريها الجفاف وقلة الأمطار منذ القِدَم، ولهذا وجدنا أهلنا منذ مئات السنين؛ قد تنبهوا لهذا وحسبوا حسابه، فهم بنوا دورهم في المرتفعات، وأنشأوا السدود الحجرية على بطون الأودية، للاحتفاظ بمياه السيول وقت هطول الأمطار، وتوجيهها لتوفير الرواة لآبارهم من ناحية، ومن ناحية أخرى لسقيا زروعهم، ثم الحد من خطر وضرر السيول على حقولهم وآبارهم. فعلى سبيل المثال؛ نجدهم في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، قد شيدوا سبعين سدًا أمويًا في الطائف وحدها، وهي التي عرفت بمحاصيلها الزراعية، وأنها بستان مكة، حيث ما زال العشرات منها ماثلًا للعيان حتى اليوم. وعندما جاء العهد السعودي الميمون، أخذ بهذا النهج المتقدم في فهم الطبيعة والتعامل معها بما يفيد ويوقف الضرر، فأنشأت الدولة الكثير من السدود على أودية فحول كثيرة في العديد من المناطق، ومنها الطائف؛ التي أنشأت بها عشرين سدًا على أودية كانت وما زالت تفيض على مدن ومجمعات سكنية ومزارع.
* ما موقفنا اليوم؛ ونحن نعاني من سيول تهدد جدة ومكة وبلدات أخرى بين آونة وأخرى.. موقفنا من التجارب السابقة في تبني فكرة السدود على الأودية، لتوفير رواة لآبار السقيا وسقيا المزارع، ثم درء الضرر المتكرر من هذه السيول المنقولة على أحياء كثيرة في جدة ومكة وغيرهما من المدن..؟ لماذا لم نأخذ بالفكرة عند التخطيط العمراني والتوسع، الذي ما زال يزحف، فيبتلع الكثير من الأودية والشعاب أسفل جبال شاهقة سيولها جارفة في العادة..؟ ولماذا لم نواصل استثمار السدود التي أنشأتها الدولة سابقًا، بالتعهد والقفل، أو الفتح حسب الحاجة، ومن ثم الإكثار منها على أودية فحول مثل وادي الرُّمَة، ووادي الدواسر، ووادي تُربة، ووادي السرحان، وغيرها من تلك التي تتحول إلى أنهار تذهب سيولها للبحر شرقًا وغربًا..؟
* إذا نسينا سيل الربوع الشهير العام 1360هـ؛ وسيل الربوع العام 1388هـ؛ وما بينهما وما بعدهما من سيول عمت مدنًا كثيرة في المملكة؛ فجرفت ودمرت وقتلت الكثير من الناس، حتى أنها دخلت الحرم الشريف، وفقد أهل القرى حول الطائف بسببها مواشيهم وآبارهم وبعض أهاليهم.. إذا نسينا هذا؛ فهل ننسى سيول جدة المدمرة العام 1430هـ، وسيولها الأخيرة التي شملت أحياء في مكة كثيرة..؟ إن لنا في كل ذلك لعظة وعبرة، ننطلق منها إلى تبني فكرة صيانة السدود القديمة وإدارتها بشكل جيد، وإقامة المزيد من السدود على الأودية والشعاب التي تفيض نحو المدن والمجمعات السكنية، وتحويل مسارات بعضها إن أمكن، وعدم الركون كثيرًا لمشاريع الصرف الصحي وتصريف السيول، التي لم تستوعب كل سيول جدة ومكة على سبيل المثال.
* إن خطر السيول في كل زمان ومكان قائم، ولا بد أن نجعل من أضرارها فوائد، إذا أحسنا خزنها في بحيرات خلف أكثر من سد على الوادي الواحد، والاستفادة من هذا المخزون المائي؛ في سقيا المزارع والحدائق، وتلطيف الأجواء حول المدن والقرى. إن تاريخ الجزيرة العربية؛ حافل بكثير من وقائع للسيول في أرجائها من سني سيل العرم، وانهدام سد مأرب العظيم؛ إلى يوم الناس هذا.. هذه وقفة شعرية تاريخية، للشاعر العربي امرؤ القيس، وهو يصف سيلًا عظيمًا عم الصحراء في زمانه، وسمى أمكنة كثيرة نعرفها جيدًا:
أحار ترى برقًا كأن وميضه
كلمع اليدينِ في حبي مُكلّل
يُضيءُ سَناهُ أوْ مَصَابيحُ راهِبٍ
أهان السليط في الذَّبال المفتَّل
قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتي بينَ حامر
وبين إكام بعد ما متأمّل
وأضحى يسحُّ الماء عن كل فيقة
يكبُّ على الأذقان دوحَ الكَنَهْبَل
وتيماءَ لم يترُك بها جِذع نخلة
وَلا أُطُمًا إلا مَشيدًا بجَنْدَلِ
كأن طمية المجيمر غدوةً
من السَّيلِ والغثاء فَلكة ُ مِغزَلِ
كأنَّ أبانًا في أفانينِ ودقهِ
كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وَألْقى بصَحْراءِ الغَبيطِ بَعاعَهُ
نزول اليماني ذي العياب المخوَّل
كأنّ سباعًا فيهِ غَرْقَى غدية
بِأرْجائِهِ القُصْوى أنابيشُ عُنْصُلِ
على قَطَنٍ بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوْبهِ
وَأيْسَرُهُ عَلى السّتارِ فيذبل
وَألقى بِبَيسانَ مَعَ اللَيلِ بَركَهُ
فَأنزَلَ مِنهُ العَصمَ مِن كُلِّ مَنزِلِ