إنّ التسليم طواعيةً للمدّ الترجمي من الانجليزية والفرنسية وعدم مقابلته بمدٍّ مثله من العربية، يعني أنّ الهيمنة الثقافية حاصلة والانتفاع منها يصب في صالح الأدب الغربي ونقده. وهو ما يقتضي وعياً بأهمية إحداث تغيير في موازين القوى الثقافية تأخذه على عاتقها المؤسسات وفئات المثقفين رفضاً للتبعية وتحلياً برؤيا للعالم تتجه صوب صنع منظومة ثقافية أصيلة لا تُلغي الآخر ولا تصنّمه، بل تأخذ منه بلا تبعية وتُعطي له بلا انغلاقية. ولم يقتصر امتلاك هذا الوعي في مقاومة التبعية على المثقفين العرب نقاداً ومفكرين، وإنما شمل أيضاً المثقفين الغربيين المنفتحين والرافضين للنزعة الكولونيالية الذين يشعرون بمخاطر هيمنة خطابهم على غيرهم من الشعوب الأخرى. ومن هؤلاء الأمريكي «ريتشارد رورتي» صاحب كتاب(الفلسفة ومرآة الطبيعة) الذي عبر عن آرائه الرافضة للهيمنة، وسبقه نيتشه ومارتن هيدجر وجاك دريدا وميشيل فوكو وفنجنتشتاين وديفيد هيوم وغيرهم ممن رفضوا اللوغوس والمركزية والنزعة العقلية.
ويظل حال من يقاوم التبعية من داخل ثقافته أقل معاناة ووطأة من حال من يقاومها من الخارج. وإذا كانت اللغة أهم أداة في هذه المقاومة، فكيف يمكن منهجة هذه الأداة لتكون فاعلة بصورة موضوعية وعلمية؟
لا ريب أن باستطاعة المثقف العربي مواجهة الهيمنة الثقافية بوسائل مختلفة ذات كفاءة وفاعلية، بيد أن اللغة هي أنجع وسيلة في المقاومة التي بها تتقلص فاعلية الترجمة من الآخر. وقد يتشكل بمرور الزمن فضول لدى الآخر يضطر معه ـ بدافع إبقاء الهيمنة الثقافية مستمرة ـ إلى المهادنة، مراجعا سياساته الثقافية مضطراً إلى القبول بالتشابك الثقافي Cultural Entanglement في ظل أجواء التعددية الثقافية والديمقراطية الرقمية.
ومع قلة التصدير الترجمي للإنتاج النقدي العربي إلى اللغات الأخرى وندرة منافذ نشره، تتأكد هيمنة الآخر وتتضح اتباعية ذاتنا الثقافية. وسواء أكان الناقد العربي قاطناً في بلد عربي أم مقيماً في دولة أجنبية، فلا فرق على المستوى الواقعي. وهذا ليس جديداً فقد واجهه المفكرون والنقاد العرب مطلع النهضة الأدبية حيث كانت التبعية أكثر قسوة وبشكلها الكولونيالي القديم الذي اتخذ من اللغة آنذاك وسيلة مهمة في فرض الهيمنة الثقافية على بلدان الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها معتمداً القوة الغاشمة والمتعصبة التي لا تسامح فيها. واليوم تتخذ ما بعد الكولونيالية من اللغة وسيلة لتطبيق الفرضية القمعية نفسها،ولكنها غيرت في أساليب استعمال هذه الوسيلة، فتخلت عن الصور الخشنة والعسكرية في التعامل مع الشعوب المستعمرة واستبدلتها بأساليب ناعمة أو سائلة تضمن لها استمرار هيمنتها الثقافية على الآخر الذي يظل تابعاً لها.
ويأتي كتاب الدكتور عبد الفتاح كيليطو الأخير( في جو من الندم الفكري) 2020، مثالاً على ما تقدم. وقد اعتدنا أن تكون كتب الناقد الكبير كيليطو باللغة الفرنسية وتترجم من ثم إلى العربية، وتصورنا أنه بكتابته النقد الأدبي باللغة الفرنسية قد حقق مكانةً وبنى جسوراً ما بين النقد العربي والنقد الفرنسي. وهو الناقد الكبير الذي قرأ أمهات الكتب الفرنسية وأتقن اللغة الفرنسية وأغنى المكتبة النقدية بمؤلفات قيّمة، تتناول تراثنا برؤية حداثوية جامعة السرد بالنقد، مستنهضة ما فيه من مضمرات ومطمورات، نقب عنها كيليطو بمنهجية لسانية وما بعد لسانية أفاد فيها كثيراً من تماسه المباشر مع آخر المستجدات النقدية العالمية بعامة والفرنسية بخاصة.
بيد أن كتابه الأخير( في جو من الندم الفكري) كشف عن خطأ ما تصورناه فلم يكن كيليطو قد حقق مكانة، ولا نالت نقوده موضعاً يغير حال الهيمنة الغربية على ثقافتنا العربية، بل هي ما زالت واقعة تحت الحتمية الاتباعية. ولقد سلك كيليطو في تأليف كتابه هذا طريقة البوح السردي أو الاعتراف. فعلام يلوم كيليطو نفسه وأي شيء أشعره بالندم فكتب اعترافاته؟ وأية خطايا فكرية وقع فيها واعتذر عن ارتكابها وكفّر عن خطيئته بإعلانها للملأ؟
إن الكتابة السيرية كمذكرات أو اعترافات لا فارق كبيراً فيها، ولعل الأساس في الاختلاف بينهما يكمن في أن الاعتراف يكتب بقصدية إراحة الذات عبر لومها وتأنيبها وتقريعها ومعاقبتها على خطأ أو أخطاء ارتكبتها ولا بد من تصحيحها طلباً للغفران الذي به يسكن البال ويزال اللبس وسوء الفهم. ولأن الاعتراف من أدب السيرة، يكون من الطبيعي استعمال الكاتب ضمير الأنا في صياغة سردية نقدية تبدأ أحداثها من نهاية الستينيات وفيها ظهرت اهتماماته اللسانية. وفي هذه المرحلة اكتشف أن النقد الغربي يهتم بدراسة أبطال روايات مثل( أوهام ضائعة) لبلزاك و(عالم صغير) لديفيد لودج ويقدمهما كظواهر فريدة تماثل أبطال ألف ليلة وليلة والمقامات ورسالة الغفران..ولم يعجبه ذلك التماثل، وبعد جهد جهيد تخصص كيلي طو في مقامات الهمذاني والحريري وكتب أطروحته فيها.
وصحيح أن وراء الندم واللوم نشداناً للحقيقة لكن هذا النشدان أيضا ينتهك ثقة الذات بنفسها كما يشي بالإحساس بكثير من الامتهان والضعة والتعاسة والصدمة والإدانة. والموضوع المحوري في ندم كيليطو هو اللغة العربية التي أخطأ في حقها حين أهمل الكتابة بها، متصوراً أن ذلك سيمكّنه من تقليص الفارق ما بين الهيمنة والتبعية. وتعزز إهماله استعمال اللغة العربية مع مرور الوقت فكثرت كتبه المؤلفة باللغة الفرنسية، وحين قرر أن ينشر أعماله الكاملة باللغة العربية وجد كثيرين (يشيحون بنظرهم ويطأطئون رؤوسهم ويخفون ابتسامتهم وتنتهي لديهم الحماسة والاهتمام والتضامن ويسود الوجوم)..وعندها فقط شعر كيليطو بهول التبعية للهيمنة الثقافية. من هنا راح يعترف بالأسباب التي دفعته نحو هذه التبعية ولماذا صار واجباً عليه في كهولته التكفير عن ذلك كله بصحوة فكرية حصلت من جراء علاقته الطويلة والمباشرة مع الثقافة الغربية.
لقد عاش كيليطو تحت وطأة الهيمنة الثقافية مدة كافية فكان طبيعياً أن يشعر بخطرها ولكنه كان يتصور أن توظيف اللغة الفرنسية في دراسة التراث السردي العربي وتحديداً المقامات وألف ليلة وليلة سيكون ناجعاً في مقاومتها فلا تضيع هويته ولا يقع تحت تأثير هذه اللغة. ولم يراهن على الترجمة كوسيط بل راهن على اللغة كوسيلة يمكنها أن تفتت الهيمنة الثقافية التي كانت تشعره دوماً بالهلع ولسان حاله يسأل: هل أتمكن من جعل ذاتي العربية في مصاف الآخر الفرنسي وأخرق حاجز الهيمنة وأجعل التراث العربي مكافئاً للنتاج الغربي؟
المؤسف حقا في اعترافات كيليطو هو استنتاجه أنه بعد هذا المشوار المضني والجهود الكبيرة مع كتب الجاحظ وابن خلدون، وقع في خطأ التبعية الفادح. ويتضح شعوره بعدم الرضا في هذه الحادثة التي يسردها عن أستاذ فرنسي تعجب حين أخبره كيليطو أن مارغريت دي نافار أخت الملك فرانسوا الأول و( عوض أن أقول له اذهب إلى الجحيم قلت له: متلعثما: سمعت بها عرضاً وبالصدفة..) على هذه الشاكلة تأتي اعترافات عبد الفتاح كيليطو صادمة، وبما يؤكد ثقل الشعور بالتبعية الثقافية التي وقع تحت تأثيرها. ومهما تترتب على مثل هذا الندم من أحكام صارمة وقاسية فإن كيليطو مضى معترفاً على نفسه، مدينا إياها على ما وقعت فيه من خداع وتشويش مع إحساس كبير بالنقص والقلق.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ ندم كيليطو جاء متأخراً ومتقاطعاً على المستويين العملي والمعنوي مع ما سعى إليه من منحى تصحيحي للتبعية لكن ذلك احتاج منه إرادة مضادة مقتدرة تقاوم الآخر وترغب في تغيير مسار التاريخ، فهذا هو وحده الذي يسمح بالتفرد بكوجيتو ديكارتي وموناد ليبتزي حيث الذات مريدة ومنتظمة تجابه وتتصارع وتخالف من دون أن يعني ذلك عدمية أو استحالة في امتلاك الذاكرة والوعي العربيين. وإذا لم تكن مقاومة كيليطو اللغوية نافعة في التحدي، فإنها في المقابل كانت قاسية من ناحية ضياع الهوية والخضوع لذاكرة فردية غير جمعية.
إن تفحص تجربة عبد الفتاح كيليطو في مقاومة الهيمنة يوقفنا على حقيقة أنّ حال التراث الأدبي العربي ونقده أفضل من حال الأدب المعاصر ونقده في مقاومة الهيمنة الثقافية، والسبب غنى تراثنا بينما تظل إنتاجية الأدب العربي المعاصر خاضعة لعملية امتثال كبيرة للنموذج النقدي الانجلوسكسوني والفرانكفوني. وكان بمقدور كيليطو أنّ يتخذ من اللغة العربية أداة في مقاومة الهيمنة، ولو فعل ذلك لاستطاع عندها أن يحلق عالياً بالأدب العربي ونقده في بلاد الغرب. وما اعترافاته في كتاب( في جو من الندم الفكري) سوى مثال سردي نقدي على محاسبة الناقد والباحث لنفسه على جريرة الكتابة بغير اللغة العربية، فتهجّن منجزه وغابت أصالته، وانقسم بين أن يكون كاتباً أصيلاً وبين واحد آخر غير أصيل فيه رأى ذاته تابعة واتباعية.
** **
- د. نادية هناوي