الثقافية - أحمد الجروان:
شاعر تميز بحرفه وبوحه، وإعلامي يجيد رسم ملامح الإبداع في تختلف الروابط التي تصل بين أنواع الإبداع لتكون البوصلة التي توجه المبدع نحو شواطئ التألق.. ضيفتنا في هذا الأسبوع شاعرة وفنانة تشكيلية استطاعت أن تضع لها بصمة إبداعية غير تقليدية في ميدان الإبداع الشعري والتشكيلي، الثقافية تستضيفها اليوم للحديث عن هذين القطبين الإبداعيين اللذين تديرهما بكل اقتدار، لتتحدث لنا سكينة الشريف عن رحلتها في هذا الميدان..فإلى نص الحوار.
* حدثينا عن بداياتك الأولى كيف كانت.. وما سبب اتجاهك إلى الشعر والفن التشكيلي؟
أودُّ -أولا- أن أشكر حضرتك على هذه الدعوة الكريمة للحوار الأدبي والفني عبر صحيفتكم الوارفة والعريقة الجزيرة الثقافية أستاذ أحمد، كما هو الشكر على جمال ورقيّ وعمق هذا الطرح من خلاله.
وإجابة عن سؤالك، فهناك جاذبية روحيّة بين الطبيعة والانطلاق، بين الخيال والتفاصيل، بين الورد والمحورية، بين الجمال وأصل الشغف وأبعاده الوجدانية، بين اليَقظة واتساع المعنى، فلا حدود تقف بين مُتجاذبين، هذا ماكان يشدني للعبور إلى الفن مبكرةً، وبداياتي كانت في طفولتي المفعمة بالمفاجآت، وحواسي المرهفة بالإيقاع، فظهرتْ عندي ميولٌ للتعبير الحر بالرمز، تماما كما بدأ الإنسان الأول لغته برسمِ الرموز بدأتُ بالرسم بشكل مذهل لمن حولي، عائلتي وأقاربي ثمّ كنت شغوفة جدًا بلغز الألوان وماهيتها، ثمظهر الشعر كتنسيق لكلمات وعبارات فيها إيقاع بشكله العفوي والبسيط، كانت عندي رغبة مُلحّة في التعبير عن أفكاري، واستمرت هذه الرغبة حتى ظهرت ملامح هواياتي المبكرة بعد صقلها بالدراسة والتشجيع والتعلّم.
لكني مع مراحل الدراسة شُغلت نوعًا ما عن تطوير ملكة الشعر نظرًا لتوجهي نحو المجال العلمي فتأخر بروزي في مجال الشعر كثيرًا، لكنه - ولله الحمد - جاء مواكبًا لما أصبو إليه رغم هذا التأخير.
أما الفن التشكيلي فكان لروحي رئةً ثالثةً أكادُ لا أستغني عنه، ففي كل مرّة أجدني أفيض شعورًا بشيء ما أتوجه إلى مرسمي.
الشعر فنّ والتشكيل قلب الفن فبالإمكان أيضًا إعادة تشكيل المفردات الشعرية والتشكيل بالألوان براعة وإبداع تكفي لإعادة صياغة طوفان الشعور الحقيقي والصادق والحتمي، لذلك أنا أختار وأصطفي الفن لروحي لما فيه من سموّ ورقيّ وجمال وبوابات تُفتح على عوالم أخرى خلابّة ومُلهمة.
الفن عادةً يفي لمن يُوْليه صدقه ونقاءهُ واهتمامه، وربما كنتُ أحد هؤلاء الأوفياء المحظوظين به؛ فأعطاها الكثير.
* ما العقبات التي واجهتيها عند اكتشفت هويتك، ولماذا اتجهتِ للغموض في بدايتك الأدبية؟
سأحدثك عن العقبات بشكل عام لي ولكل أنثى تحتاج أن تُعبر عن نفسها من خلال القلم أو الريشة أو ملكةٍ ما، لابد لها من الظهور. تتواجد في مجتمع محافظ وغيرمعتاد- حقيقةً- على وجود الأصوات والوجوه النسائية في الساحة الأدبية والفنيّة، وأنا إحدى هؤلاء اللواتي حرصن على إبداء مالديهن، بما يتوافق مع الدين الإسلامي والعادات والتقاليد بشكل وسطي ومتزن وخادم للمجتمع وحامل لرسالة سامية ونبيلة،وهناك من يستنكر عند التلقي ذلك التوجه، فمثلا واجهت بعض المضايقات التي كانت مُتوقعة بالنسبة لي، ولو لم تكن بعضها بشكل مباشر لكن طبيعة الظهور والانتشارتحمل معها السلبيات كما تحمل معها الكثير من الإيجابيات.
وبالنسبة للأدب والشعر بالخصوص هناك نقطة حساسة ومهمة أسأل الله أن أُلْهَمَ الصواب في التعبير عنها بما لايترك مجالًا للبس عند القارئ، فقد كنت كثيرًا أخشى مايسمى بالمجتمعات الأدبية المُغلقة أو إن جاز لي التعبير (القرصنة الأدبية ) ولاسيّما تلك التي تطفو على سطوح مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك كان في البداية، لكن الآن-ولله الحمد- أشعر أني أفضل وأكثر أمانًا واستقرارًا، حيث أسعى-بحول الله- لمستوى أفضل يليق بالاهتمام الذي وجدناه من وزارة الثقافة والإعلام، والسخاء المواكب لرؤية 2030 لسموّ الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله- الذي أولى الفن بصفة عامّة والشعر بصفة خاصة جُلّ اهتمامه.
* هل الجمال يستفز الحمقى حقيقة؟ أم لهذا التشبيه معنى آخر؟
هذا السؤال يتّصل بطريقة ما بسؤالك السابق أستاذ أحمد، فهو مرتبط بالعقبات التي تواجه الأنقياء والصادقين والعفويين في المجتمعات المفتوحة، وكذلك الاستفزازات المتكررة للمناضل في طريق النجاح، وهذا أمرمعهود ولايختلف عليه اثنان، فما بالك بأنثى تريد شق طريقها نحو النجاح؟!
ثم إني أُحدثك عن مواقع التواصل الاجتماعي كنموذج مصغّر لمجتمع افتراضي نواجه فيه أحيانًا ردات فعل عشوائية ومؤذية، وهذا ماكنت أَعنيه بأن الجمال المعنوي بالدرجة الأولى مُحَارَب عند من يفتقده، لأن هذا ما تعلّمناه منذ الصغر، فلن تجد كاملا يَذمُّ ناقصًا، بل إنه يأخذ بيده ويشفق عليه ويداريه ويتحاشى إيذاءه، وعلى النقيض من ذلك أخذتُ القبح كاستعارة عن الأذى والحسد، والنقص هذا مع التأكيد بأن الرائعين والأنقياء والمحبين للأدب والفن في مجتمعنا السعودي والعربي كُثر- والحمدلله- والدعم الذي حصلت عليه خلال فترة وجيزة من ظهوري لايُقدّر بثمن أبدًا، وأنا من خلالكم أتقدم بالشكر لكل من آمن بامكانياتي يومًا ودعمني بلا شروط.
* ما طقوسك عند كتابة القصيدة؟ وهل تختلف كثيرا عند رسم لوحة فنية؟
ستشعلني حالة مزاجيّة مفاجئة وحادة بالأفكار أو تنضح إحدى ساعاتي العابرة بالفوضى فتضطرني للوقوف أمام مساحاتٍ بيضاء تتمدد لهذه المزاجية، وترفق بهذه الفوضى.
الفن يا أستاذي لايستأذن حين يقدم إلينا إنه يباغتنا كعاصفة تتبعها عاطفة، كطوفانٍ يليه سكون وربيع،كبركانٍ تتبدل به الأرض ينابيع باردة وحقول.
إنّ حافزكتابة القصيدة يلتقي مع بواعث الفن في خلق حدث ربما يكون تخيلي، وربما يكون ظرفا شاعريا أو فنيا طارئا يحتاج الظهور بملامح قصيدة أو لوحة حقيقية يلمس صدقها أو سحرها، المتلقي بحسب الرسالة التي حملتها الأفكار عبر حنايا تلك المساحات، لكن هناك فرق مهم بين اللوحات والقصائد من حيث التلقي، ومن حيث احتواء عنصر الابتكار، فأجد أن التشكيل مستفزّ أكثر للابتكار وفيه مجال لحوار العالم كافّة، لأنه بلا حروف فلا تستأثر به لغة دون أخرى على عكس القصائد والتي مازالت تدور في حقول الحداثة والشعر القديم وتتجاذبها الرؤى والخلافات، فالفن إلى حدّ ما تخلَّص من تلك القيود، فتعجبني فيه الحريّة والانطلاق، وأراهُ مُكلّلا بالدهشة أكثر من الشعر عند التلقي.
* لماذا عنونت ديوانك بـ «مغمورة بفن»؟
جاء العنوان حاملا اسم اللوحة الموجودة على الغلاف، وهي أيضًا إحدى لوحاتي التشكيليّة والتي تعبر عن وجه أنثى مغمورٍ بقاع المحيط متلاشيًا بجزء منه مع مكنونات المحيط كتعبيرٍ سرياليٍ عن الانسجام والعمق والانتماء توضّح ذلك الزرقة التي تغمر الخلفية في اللوحة وملامح الفتاة التي رسمها التناقض بين التأمل والحزن، والطموح والتطلع، والعمق كل ذلك حاولت أن أحمله نظرة وملامح تلك الأنثى، وهو أيضًا عنوان لقصيدة تضمنها الديوان تحمل نفس المعاني بما فيها الاستعارة والتورية خلف كلمة (مغمورة)، والتي أكدها الجزء الثاني من العنوان (بفن) بمعنى أنها مغمورة ولكن ليس بمعناها القريب، أي ليست غير معروفة، لكن مغمورة بأسرار المحيط والفن .
* لمن وجهتِ قصيدة «تشظّي»؟
جميل جدًا هذا السؤال، لا أعرف. وقد تمنيت أن يوجّه لي ذات يوم تعرف تساؤلات المتلقين كثيرة فهذه القصيدة واللوحة التي تحمل اسمها مازالت تحمل معها نفس المشاعر من الحزن والألم، فقد كتبتها حين كان يعاني زوجي من ظروف صحيّة صعبة اضطرته للمكوث في المستشفى فترة طويلة، وكانت تتناوبني فيها الهواجس والأحزان والقلق الشديد فكان مما جاء فيها:
تغيبُ ويحضرُ الجرحى لفيفَا
ويغدو كوني الأحلى مُخيفَا
فتمطرني الهواجس بالتمني
وتُدني حبَّك الأسمى رغيفَا
فقلبي نازفٌ حدَّ التَّشظّي
وحزني فيكَ يغمرني كثيفَا
أما اللوحة-رغم أني بدأتها في مرحلة سابقة لهذه الأحداث- إلا أني أكملتها لاحقًا بما غيّر مسارها بشكل عفوي، فجاءت تصف القصيدة فأعطيتها نفس اسم القصيدة.
* لمسات القصة القصيرة تبدو جلية في بعض كتاباتك «التويترية» هل تنوين احترافها؟ وما قصة «حجة غياب»؟
الحقيقة يستهويني جدًا فنُّ القصّة القصيرة، لكن مازلت أطرق بابها على استحياء؛ فمعلوماتي متواضعة فيما يتعلق بأساليب نجاحها ورغم ذلك أجدني أحيانًا أميل للتنويع بالشكل الذي يفرضه علي الموقف فغالبًا القصص القصيرة لها مواقف مستفزّة للقلم.
«حجة غياب» لها موقف لافت جدًا وباعث على التأمل، وتقييم مستوى همومنا فقد جاءتني إحدى طالبات المرحلة الثانوية على أبواب التخرج تطلب عذرًا لغيابها، وهي في حالة تبسم عفوية ولافتة، وكانت تسترسل في سرد أسباب عذرها بشكل عكسي، مماجعلني فعلًا أدخل معها في موجة شرود حيث قالت إنّها أصيبت بحالة تسمم ثم عائلتها لأنهم خارج المنزل مؤقتًا بسبب نشوب حريق في منزلهم، ثم أردفت بشكل سريع: هل قبلتِ عذري؟ فما كان مني إلا التأمل في سخافة همومنا وفي جمال تفاؤلهاوعفويتها.
* من اكتشف إبداعاتك التشكيلية؟
العائلة أولًا، ثم المدرسة: المعلمات، والزميلات، ولا أخفيك أن التواصل والنشر عبر قنوات التواصل الاجتماعي أفادني كثيرًا من حيث تبادل الخبرات، نشر المختلف عرضه لمساحة أكبر من المتلقين ساهم وبغزارة في صقل موهبتي وبروزها بوتيرة متسارعة ومرضية.
* هل للوحاتك قصص، أم وحي خيال؟
لكل لوحة قصّة تقريبًا لها حدث باعث على الحياة كلما تأملتها واستحضرته.
وهذه الأحداث سيمازجها الخيال حتمًا، فتبدو أجمل وأرقى في مستوى الفن، لأن الخيال هو مداد الجمال في الفن وثوبه الذي يرفل فيه.
* ما هي أقرب لوحة فنية إلى قلبك؟
هُنَّ كُثُر الحقيقة، فاللوحات كالقصائد ويقال إن القصائد أبناء المرء كلها مقرّبة ولكل منها رونقه وأحداثه الجميلة التي يستحضرها.
هناك لوحة (نسيان) تستفزّ تأملي وأعلم أني لن أكررها.
لوحة (مغمورة بفن ) نالت الكثير من استحسان النقاد ولمحت أصداءها عن كثب.
مثلًا، لوحة (عميقة) تعبر عن المرأة قوتها وإمكانياتها وهمومها.
(عمق الغياب) تجريدية بقوة ولم تخذلني في التعبير عن الفكرة حينها، ألا وهي الانعتاق من قيود المعاني القريبة.
* أنت مدربة فن تشكيلي، هل يُعَلَّم الفن التشكيلي، أم هو موهبة تُصقَل؟
التدريب في مجال الفن التشكيلي هو في الأساس يستهدف شريحة الموهوبين في هذا المجال، والموهبة لا تُدرَّس، إنما يُوجَّه أصحابها، ويُسلحون بالمعلومات المهمة حول المدارس الفنية عبر العصور؛ ليتسنى لهم معرفة وانتقاء الوجهَة التي تستوعب إمكانياتهم الفنية، وفهم أساليب التعبير المبتكرة في التشكيل، أهمية الوسائط والتأسيس للعمل ومعرفة الفرق بين الرسم والتشكيل وأيهما أهم للفنان.
* بما أن الزخرفة الإسلامية تعد رسماً يقرأ هل تحترفينه؟
للأسف، لست من البارعين في هذا المجال إنما رُشحت لدورات فيه، وحصلت عليها ودرّبت فيه، لكن كتقييم لاتقانه أرى أن هناك من هم أكثر كفاءة مني فيه؛ لسبب أني تشكيلية تُنسّق الفوضى على البياض، والزخرفة تحتاج دقّة شديدة وإتقان للرسم أولاً، وتركيز عالٍ جدًا، وهدوء أعصاب.
* ما رسالتك لمن يقرأ لك؟
شكرًا عظيمًا وامتنانًا لكلّ من اهتمّوا يومًا بحرفٍ أرسلته عبر فضاءات روحي أولا، ثم عبر أثير نقائهم، ومن استهواهم الوقوف على بوابات لوحة ليطرقها بالكثير من الأسئلة ويغمرها بالكثير الكثير من الجمال، أنتم مدادي إلهامًا وجمالًا وصدقًا واعدًا لن ينضب.