د.فهيد بن رباح الرباح
مرحباً بكم معاشر القرَّاء الأكارم أهلاً وسهلاً..
صديق حفيٌّ وزميل وفيٌّ عرفتُه وعرفتُ فيه الكمال، عرفته صادق الدِّيانة وحسن المعشر، عالي الأخلاق سمح الصِّفات كثير الفضائل والخيرات، باذلاً للمعروف منكراً للذَّات.
وهو في علمه دقيق كبير حبير خبير، يُرجع إليه في مسائل النَّحو، يوضح لمهاتفيه وينير لمصادفيه ما يستشكلونه في النَّحو والصَّرف، بل يعقد لهم جلسات يقتطعها من وقته قُربةً بلا مقابلٍ يشرح فيها مسألة أو يوضِّح منغلقة، أو يفهِّم مستغلقة، يلوذ به طلَّاب الجامعة في بلدته (حوطة بني تميم) مَن يدرس منهم في كلِّيَّة اللغة العربيَّة أو في كلِّيَّة الشَّريعة قبيل الاختبارات وليلتها فهم وفود على بابه، وهو منهم لا يتبرَّم، ومن فعلهم لا يتسخَّط، ولا يردَّ أحداً، بل يرحِّب بالسَّائلين.
وقد كانت لي معه لقاءات وما زالت، لقاء يتلوه لقاء، كلُّها مليئة بالمناقشات النَّحويَّة والمحاورات العلميَّة، ومن ذلك أن قد وجدتُني أقلِّب النَّظر في مسألة الإضافة اللفظيَّة وأمر الإضافة المعنويَّة، وفاتحته بهذا، واطُّرحت الأسئلة تباعاً؛ لم هي معنويَّة؟ أذلك لمجرَّد المقابلة لكلمة اللفظ في الإضافة الأخرى أم من أجل معاني حروف الجرِّ فيها؟ وما وجاهة الاختلاف في عدد حروف الجرِّ في الإضافة المعنويَّة؟ وما الوجه الأوجه أفي الاقتصار على تضمُّنها لحرفٍ جرٍّ واحدٍ أم لحرفين أم لثلاثة أحرفٍ؟ وثلاثة الأحرف هو الرَّأي المشهور عند متأخِّري النَّحويِّين؛ كابن مالكٍ ومتَّبعيه، مع أنَّ القول بالثَّلاثة الَّذي هو المشهور عند متأخِّري النَّحويِّين مستشكَلٌ أمره، مخالَفٌ في قبوله عند أقرب النَّاس للنَّاظم عند ابنه، واستقرَّ النِّزاع في الحرف الثَّالث.
والمأخوذ به عند خالفيهم هو القول بالثَّلاثة، غير أنَّي كنتُ ألاطف البصيرة إعمالاً للنَّظر في كلِّ إضافة أجدها وقتما أقرأ أيَّ مقروءٍ، إذ كنتُ أطبِّق ما استقرَّ عليه الأمر من الحرف والحرفين والثَّالث المنازع فيه، بين الاعتداد به حرفاً ثالثاً أم أمره إلى القلَّة والنُّدرة والشُّذوذ بحيث لا يعتدُّ به، ولا يعدُّ ثالث الاثنين.
وهذا العمل والتَّتبُّع والتَّقرِّي أسلمني إلى أمورٍ استوقفتني في هذه الأحرف كثرة ورود وقلَّة ورودٍ؛ فوقفت أتأمَّلها ومضيت أجمع من هنا وههنا ما أقع عليه، فاجتمع عندي ما خلخل تلك العدَّة الثُّلاثيَّة أو الثُّنائيَّة، وأشكل وأنحل رأياً لم أجده مضمَّناً في كتب النَّحو عن أحرف الجرِّ في الإضافة المعنويَّة، وقد كنت أحسب أنَّ بالثَّلاثة قد انحسم أمرها.
وقد عارضتُ بهذا الخاطر الصَّديق الصَّفيَّ أبا عليٍّ سعادة د. إبراهيم بن عليٍّ التَّميميَّ، فأرغبني في أن أُمضي ذلك ببحثٍ يترسَّم المسألة ويتدارسها، وأخذاً برأيه ورغبةً في تحصيل الحقيقة فقد عقدت العزيمة على ابتحاث هذه المسألة بنظرٍ جديدٍ غير تقليديٍّ، ورسمت له خطَّةً نازعة إلى كشف مخبَّآتٍ في ذلك؛ وفي الأمر طرح جديد وإن كنتُ غير عابئٍ بعدم وروده عندهم غير أنَّ ما ينعشني أنَّه سائر وِفاق أصول صناعتهم، ويتغيَّا مقاصدهم في التَّقعيد والضَّبط، لا مخالفٍ لتعليلٍ ناهضٍ ولا مناقضٍ لحجَّة قائمة، ولكونه جديداً ومخالفاً لما هو مشتهر لذا ينبغي أن تُرسم الصُّوى كيما لا يريغ مريغ إلى بنيَّات الطَّريق ملاطماً هذا الأمر بالنُّكر.
ومن شقاشق هذا الحديث، وهو مسلَّم به عند بُناة الفكر وأهل إعمال آلة النَّظر أنَّه قد قيل في الحكمة: إنَّه لا أضرَّ على العقول وتعطيلِ آلة النَّظر من الشُّهرة، فشهرة شيء ما مدعاة إلى التَّسليم به، واعتقاده الحقيقة، من غير استرابة، ومثلها قولهم: ما ترك الأوَّل للآخر شيئاً.
وكان ممَّا دار حديثه مع سعادته أنَّ المتأخِّرين من النَّحويِّين قد يتلمَّسون عللاً وأوجهاً زادوها على أقوال المتقدَّمين، وذلك لمَّا أن دخل علمُ المنطق النَّحوَ، وانبهر أهله بحسن التَّعليل ولطافة الإقناع به، وقد دخلت العلَّة إلى علم النَّحو؛ لذا تجد المتأخِّرين أكثر تعليلاً وأجرأ تأويلاً من المتقدِّمين، وقد صنَّفوا كُتباً خاصَّة في علل النَّحو.
والمتأخِّرون يتلمَّسون عللاً للتَّراكيب وأوجهاً للمسائل لم تُذكر عند السَّالفين عن أقوال المتقدِّمين، وهي لم تُذكر عند سلفهم لا لنقص في السَّلف؛ لكنَّ الأمر أنَّ علم المنطق والجدل لم تكن من علومهم، وذلك هو ما في عصرهم، إذ علومهم عربيَّة صِرفة؛ لذا قلَّت التَّعليلات عند المتقدِّمين كثرت عند المتأخِّرين.
وتلمِّسهم لتلك العلل الَّتي لم يذكرها الأوائل لا أنَّ فيها قصوراً للسَّابقين ولا تنقُّصاً منهم كما قلتُ، ولكن لم تكن تلك من علومهم، وذلك أنَّ العلم معارج، وله في التَّلقِّي مراتب وطرائق، وله في كلِّ عصر سمات، فالأوائل المؤسِّسون وقت التَّدوين أمثال سيبويه ومَن قبلهم، يأخذون العلم من العلماء، ويشافهون أهل اللسان، وأعقبهم أجيال من العلماء انقطع عنهم اللقيا بالعرب الفصحاء أهل اللسان، وبقي لهم طريق الأخذ من العلماء فحسب، مع دخول علوم جديدة على البرنامج التَّعليميِّ كالجدل والمنطق، فهذا ما قد أثَّر في بناء التَّلقِّي وكذا في عرض العلم، وهكذا تزداد العلوم وتتجدَّد المعارف مع كلِّ جيل تختلف فيه الطَّرائق في التَّلقي والعرض.
وهذه الطُّرق والطَّبقات مؤثرة في قوَّة القول وبقاء الوهج له، فمن ذلك أنَّ لأقوال المتقدِّمين سطوع وقوَّة يُفتقد مَثيله في أقوال المتأخِّرين، ولذا كان الأخذ من المتقدِّمين أصيلاً؛ لأنَّك تصدر من أقوال المؤسِّسين، وتأخذ من الأصول لا من الفروع.
ذلك، وإنَّ للإمام سيبويه دينٌ في عنق النَّحويِّين، بل في عنق كلِّ ناطق بالعربيَّة بعد عصور الاحتجاج، وكذلك له ولمَن في طبقته وشيوخه وسابقيه وعصره لأقوالهم وآرائهم مكانة وقيمة، وذلك أنَّهم فحول هذا العلم علم النَّحو، ورجاله الأوائل الَّذين شرَّعوا أحكامه، وشيَّدوا بنيانه، وكتبوا قواعده، وأقاموا أركانه.
وقد أوتوا أولئك عقولاً نشطة عبقريَّة، والزَّمان في أوَّله، والرَّوض أنف، والنَّاس في إقبال، فأخذوه أخذاً صادقاً، وأقبلوا إليه إقبالاً بصدق نيَّة ونبل غاية، اهتبلوه صادقين بنوا، وحددوا، وقعَّدوا، ورسموا إلى أن غدا صرحاً شامخاً.
ومن حديثي مع سعادته حديث التَّجديد والتَّقليد، وأنَّ كلَّ شيءٍ ذي بالٍ يكتنفه التَّقليد والتَّجديد، وهما مطلبان للعلم نفسه ولطلَّابه، والعلم واقع فيه بين عوائق ومزالق، فيكون لصخرة التَّقليد عوائق، ويكون لعجلة التَّجديد مزالق، ولهما أعني التَّقليد والتَّجديد صولة على الفكر وهيمنة عليه تقييداً وتفنيداً.
وإذا كان طلب التَّقليد للتَّقليد فحسب دون النَّظر في الحكمة من التَّقليد يكون هذا التَّقليد عائقاً في طريق تقدُّم العلم، والتَّجديد إذا كانت غايته التَّجديد فحسب كان ذلك نقضاً، وهدماً للسَّابق لا بناء عليه، وكان هذا الصَّنيع مزلقاً يجنح بالفكر ببهرج الجِدَّة، ويميل به عن المحجَّة، ولا يغوص على الدَّقائق، بل تجده يعتني بالشَّكل والصُّورة، يقبع في القشور والأطراف، ولهذا الحديث أطراف عسى أن أنشرها لاحقاً.
ختاماً.. متَّع الله ذا المنافع النَّحويَّ الصَّفيَّ الغطريف الوفيَّ أبا عليٍّ سعادة د. إبراهيم بن عليٍّ التَّميميَّ بالصِّحة والعافية والسَّلامة، وأمتعنا الله وذويه وطلَّابه بمهجته وسداده، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خير ما يجزي به أهل الفضل والعلم. والحمد لله ربِّ العالمين.
ودمتم في رعاية الله وحفظه وكلاءته معاشر القرَّاء.