حامد أحمد الشريف
في الدورات التي يعقدها المدرِّبون المحترفون نجد أنّ أكثرهم تأثيرًا وأبقاهم أثرًا هو من يستطيع استحضار المتلقّي، ودمجه في الموقف التعليميّ، وجعله جزءًا منه؛ وتحقيقُ ذلك يتطلّب - بالطبع - التشاركيّة في إعطاء المعلومة، وتداولَها بين المدرِّب والمتدرِّب، وتشكُّلَها وبلورتَها نتيجة تحاورهما، وصولاً إلى صيغتها التوافقيّة النهائيّة؛ بمعنى أن يكون التبئير خارجيًّا، يشمل جميع مكوّنات الموقف التعليميّ على درجة واحدة من المساواة، ويكون دور القائد هنا فقط تنسيق وتنظيم المعلومات والأفكار، وتأطيرها، وصولا إلى النتيجة المرجوّة. ولعلّ من ذكاء المدرّب الخبير دفع المتلقّين للتنافس بغية الوصول إلى النقطة التي يريدها، دون شعورهم بذلك، وإيهامهم أنّهم هم مصدر المعلومة؛ ويستخدم لتحقيق ذلك بعض الإشارات التي تقودهم إلى المساحة التي يريد اللّعب فيها. ومتى نجح في ذلك فإنّه سيحصد نتائج خياليّة لا يمكن وصفها، من إيصال المعلومة بالدقّة المطلوبة، وبالفهم العميق، وترسيخها، والإيمان بها، ومن ثمّ تنزيلها على أرض الواقع بالشكل الصحيح.
بالطبع لم تأتِ هذه الطريقة في التعلُّم اعتباطًا، فالأمر مرتبط بمعرفة النفس البشريّة وكشف خباياها، بهدف الوصول إلى مكامن قوّتها وضعفها، والوقوف على الطريقة المثلى لإخضاعها وتوظيفها لمصلحتنا، وما ينتج عن ذلك من علمنا بأنّها فُطرت على عدم قبول التلقين ونفورها منه؛ يشذّ عن ذلك بعض الإمّعات، مسلوبو الإرادة، ممّن يعتمدون في تعلُّمهم على التلقين، فيخرجون على الفطرة السويّة التي خُلقت النفس البشريّة عليها. رغم وجود مثل هؤلاء إلا أنّهم غير مستهدَفين في حديثنا عن المواقف التعليميّة، فهم عدميّون لا يعوَّل عليهم، ولا تُبنى الاستراتيجيّات التعلُّميّة على أنماط تفكيرهم، فسلبيّتهم تكاد تقضي على فرصة الاستفادة منهم كلّيًّا، ذلك أنّ دورهم محصور عادةً في تنفيذ ما يُطلب منهم فقط، وبقيود محدَّدة، دون أدنى تجاوز؛ ما يعني توقُّفهم عند أيّ مشكلة تعترضهم، وعجزهم غالبًا عن حلّها، وبالتالي عدم قدرتهم على نقل الخبرات واستكمال حلقة التعلُّم.
لذلك، فإنّ أمثال هؤلاء يشكّلون أسوأ نتاج للمواقف التعليميّة، مهما زاد عددهم، وهم مَن يتسبّب في إسقاط المجتمعات التعليميّة وزوالها، ووصولها إلى الطرفيّة المهلكة؛ بينما الصورة المثاليّة التي تنتج عنها أغلب التركيبات النفسيّة القويمة، تعتمد على الإقناع والاقتناع، ولعب دور القيادة في نقل المعلومة واستقبالها، وهو ما نراه متحقِّقًا في استعراض رسالات المرسَلين والأنبياء، والمنهجيّة التي اتّبعوها مع أتباعهم، وبُصِّروا بها من لدن عليمٍ خبيرٍ - سبحانه وتعالى - عندما أمدّهم بالمعجزات، وجعلهم يخاطبون عقول البشر، ويجتهدون لإقناعهم برسالتهم التنويريّة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويكتفون بمنحهم ما يحتاجونه من معلومات بسيطة تقودهم إلى الفهم الأكبر والأعمّ والأشمل، كما نراه في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}.
يكفي الاستدلال بهذه الآية من سورة الأنعام لفهم الطريقة المثلى للمخاطبة التفاعليّة التي تستحضر قيمة الشخص المتلقّي، عندما تمنحه مفاتيح معيّنة، وتضع في طريقه إشارات يتحصّل بواسطتها على المعلومة المستهدَفة من تلقاء نفسه، دون التصريح بها. فما ذُكر فيها دُوِّنت كُتُب للحديث عنه، وقامت علوم طبيعيّة، عندما فُهِمَ الفهم الصحيح؛ وهو ما يقودنا للإيمان الراسخ بأنّ الرسل لم يسعوا إلى تجييش البشر دون وعي وإدراك كما يفعل أصحاب الأيديولوجيّات الوضعيّة والفِرَق الضالّة، بل بصّروهم بأدقّ تفاصيل حياتهم من خلال استنتاجاتهم العقليّة، وقوَّوْهم بالقناعة، وجعلوا منهم مشاعلَ هداية وعلمٍ، وقياداتٍ حقيقيّة.
هؤلاء القيادات، التنويريّون المستنيرون، يتغلّبون عادة على الإشكاليّات التي تواجههم، وربّما يستلذّون بها، إذ إنّهم يعرفون من خلالها قيمة ما تعلّموه، والطريقة المثلى للاستفادة منه وتوظيفه في حياتنا للنهوض بنا؛ وهو ما يقودنا إلى القول إنّ الاستيعاب والفهم والاقتناع ركنٌ أساسيٌّ في التلقّي الناجح، وهو القادر على الربط الجيّد بين الأفراد والمعلومات التي يتلقّونها. وبالتالي، فإنّ تعلُّقَنا الفطريّ لا يكون إلّا بالمعلومة التي نشعر أنّها تمنحنا قيمة معيّنة، وتدفعنا خطوةً إلى الأمام، وتخاطب عقولنا؛ لذلك، نتصدّى للدفاع عنها وإيصالها، وإظهار محبتنا لها؛ ما يعني، في نهاية الأمر، ارتباطنا الوجدانيّ بهذه المعلومة التفاعليّة، وديمومة التحدّث عنها، وانعكاسها على حياتنا وتفكيرنا، وهو ما يتحقّق إذا ما اتّبعنا المنهجيّة الصحيحة المعتمِدة على مخاطبة العقول باحترام كبير، وعدم تجاهلها، واستنهاض مكامن قوّة الأنفس البشريّة بدل طمسها، وخلق قيادات معرفيّة بدل تجييش الرعاع ومنحنا أكثريّة وهميّة.
هذا الأسلوب الذي يتّبعه الرسل، ويحتذي بهم المدرّبون في إيصال أفكارهم إلى المتلقّين، لا يقتصر عليهم وحدهم، بل هو الأسلوب الأمثل لإيصال المعلومة مهما كانت قيمتها ونوعيّتها، وقد ينسحب حتّى على علاقاتنا الإنسانيّة فيما بيننا، فنحن غالبًا ما ننفر من المتحدّث السلبيّ الذي يقول كلّ شيء ولا يترك لنا مساحة للتفاعل معه، بل ويتجاوز ذلك أحيانًا بتعمّده توضيح الواضحات، والإسراف في ذلك، والتكرار غير المبرَّر، دون النظر إلينا واختبار رضانا من عدمه؛ ويلعب دور الملقِّن السيّئ الصيت الذي يريد منّا أن نكون إمّعات، نتبعه في ما يقول ويفعل، معتقدًا أنّ صمتنا ومتابعته ظاهريًّا نجاحٌ له، بينما الواقع يقول خلاف ذلك؛ فنحن غالبًا ما ننفصل عن مثل هذه المواقف بمجرّد الانتهاء منها، إذا أُجبرنا عليها، ولا نعود نذكر شيئًا عنها، في وقت نجد أنّنا ننجذب بشكل كبير لمن يعطي بقدر ولا يسرف في قوله، ويعلم جيّدًا ما يُقال وما لا يقال، ويتعمّد تركنا نبحر في معانيه المخفيّة، ونحاول الوصول إليها من تلقاء أنفسنا، حتّى أنّنا قد نعقد ندوات لاحقًا للتحدّث عن مقاصده ومراميه، ونفرح في وصولنا إلى معلومة لم يذكرها صراحة وإنّما توصّلنا إليها بعقولنا...
كلّ ذلك يصبّ - بالطبع - في توقيرنا لاستنتاجاتنا تلك، وتمجيدنا لما فهمناه، وثم احترامنا الكبير لمن أوصلها لنا بطريقته غير المباشرة، اعتمادًا على قدراتنا العقليّة. وهو ما ينتج عنه تعلّقنا بالمعرفة، ورسوخها في أذهاننا، وقدرتنا في ما بعد على توظيفها في حياتنا، وهو ما يؤشِّر إلى المجتمعات الحضاريّة المبنيّة على أسس معرفيّة راسخة، يمكن دخولها في معترك اختلاط الثقافات، وقدرتها على إبراز ثقافتها والدفاع عنها، وبناء حياتها بالمجمل على قناعات تصمد في وجه المدلهمّات، وتباري بها أصحاب الأيديولوجيّات والثقافات المختلفة.
في الخطاب السرديّ الأمر لا يختلف عن ذلك مطلقًا، فهناك سارد سلبيّ يقول كلّ شيء بأدقّ تفاصيله، فلا يتيح للمتلقّي المشاركة في الوصول إلى المعلومة مطلقًا، وهو من نعرّف عنه بأنّه صاحب مستوى الفهم الأحاديّ، أو صاحب الحكي السطحيّ الذي لا يعترف بوجود القارئ، ولا يحترم قدراته العقليّة، فيَفترض فيه الغباء وعدم القدرة على الاستنتاج والمقارنة والاستنباط والنهوض بالوظائف العقليّة العليا، ويسعى لتعطيلها تمامًا بجعله مجرّد تابع، يصبّ في رأسه الحكاية كاملة بكلّ درجات تلقّيها المفترَضة التي أصبحت على يديه ذات مستوى واحد، دون أيّ تشاركيّة بين السارد والمتلقّي، ممّا يجعلنا - بصفتنا قرّاء - ننصرف عن أيّ خطاب من هذا النوع، ونملّ من هذه السرديّات السلبيّة مهما بلغ جمالها الشكليّ، أو كانت كتابتها الأدبيّة راقية من حيث نهوضها بباقي عناصر السرد وتقنيّاته وأساليبه وفنونه.
هذا النوع من السرديات نجد أنّنا غالبًا لا نكمله، ذلك أنّ النفس البشريّة - كما أسلفنا - تأنف من سياسة التلقين، وتكون الكتابة على هذا النحو السيّئ من أهمّ أسباب الانصراف عن الأعمال السرديّة وإسقاطها مبكّرًا، فلا يُقبِل عليها إلّا فئة قليلة جدًّا من اللاهثين وراء الحكاية فقط، ممّن لا يعلمون القيمة الحقيقيّة للسرد كأدب ينهض بالمجتمعات، ويؤطّرها على سلوكياّت معيّنة، ويوصل رسائلها، ويناقش قضاياها واضعًا الحلول لها، ويبثّ من خلالها الأفكار التنويريّة في باقي المجتمعات، ويُعَدّ وسيلة لتعريف باقي الأمم بأصحابها، ورصد تاريخها الإنسانيّ، وتخليد ذكراها...
هذا ما حدث معنا نحن المتلقّين العرب من ناحية إلمامنا بثقافة الآخر، ومعرفتنا - على سبيل المثال - بأدقّ التفاصيل المتعلّقة بتيّار الأيديولوجيّة الماركسيّة اللينينيّة من خلال الأدباء الروس، أو وقوفنا على تيّار الليبراليّة والعلمانيّة من خلال أدباء أوروبّا وأمريكا، وتصوُّرنا للحياة عامّةً في كلّ أصقاع الأرض من خلال الأدب المنقول. فالحكاية غير التفاعليّة لا تترك أثرًا بالمطلق، وتنتهي بانتهاء سردها، ولا يعود أحد يذكرها، ومن يستمعون إليها ويُظهرون إعجابهم اللحظيّ بها لا يعوَّل عليهم في ذيوعها وانتشارها، إذ إنّهم يشكّلون حلقات طرَفيّة، تنتهي الأعمال عندهم، ولا يحسنون نقلها إلى غيرهم؛ وما هؤلاء ممّن يستهدفهم السارد بفنّه وخطابه الإبداعيّ الذي كُتب ليبقى، بحيث يتمّ تناقله وظهور قيمته بالتقادم، وبكثرة القراءة، وبسبر أغواره... لتُعرف قيمته أحيانًا بعد سنوات من تدوينه ونشره. لذلك، كان من المهمّ إشراك القارئ في العمل السرديّ وإدماجه معه، لترسيخ إيمانه بمقتضياته الفكريّة؛ وبقدر نجاح السارد في هذا الأمر، مع باقي عوامل النجاح التي ذكرناها وسنتحدّث عنها تباعًا، سيكون لهذا العمل قيمته، بعد أن يكون قد اجتاز منعطفًا مهمًّا لتجويد سرده وديمومة حضو ره في المشهد الثقافيّ لأيّ مجتمع.
إنّ حديثنا عن إيجابيّة التلقّي في الخطاب السرديّ لم يأتِ من فراغ، فعددٌ لا يستهان به من الأعمال السرديّة، سواء أكانت قصصًا بأنواعها أو كانت روايات، تسقط في هذا المنعطف المهمّ، عندما تضيع هويّة السارد، ويقع بين الوصف المستفيض الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويتحدّث عنها، وبين الإقلال بشكل مزعج يُفقد القارئ القدرة على الفهم ويضعه أمام طلاسم لا معنى محدّدًا لها، وبين من يُحسن الصمت في المواقع التي تحتاج ذلك لكنّه لا يترك إشاراتٍ واضحةً توصل إلى المعنى المراد، فيفقد القارئ اتّصاله بالنصّ، وتضيع المعاني المراد إيصالها.
بين كلّ هذه الصور السلبيّة، تفقد الأعمال السرديّة قيمتها، وتحفر قبرها بقلمها؛ فالمكثر والمقلّ والعاجز عن مساعدة القارئ على فهمه، جميعهم يتقاسمون الفشل. بينما الصورة المثاليّة التي نبحث عنها، هي التي تتخلّص من كلّ هذه المعوّقات، فتمنح القارئ جزءًا من المعلومة لا يمكن وصوله إليها كاملة بدون مجهود شخصيّ؛ فتقتصر المعلومة على وصف الأمكنة وذكر الأزمنة، ورسم سيرورة الأحداث الواقعيّة، وتناوُل بعض صفات الشخوص الجسديّة، والأطر الرئيسيّة لأنماط تفكيرهم، وتترك ما يمكن للقارئ الوصول إليه استنتاجًا واستنباطًا من دون الحاجة إلى ذكره صراحة، فتساعده على النهوض بهذا الأمر بوضعها الإشارات التي توصله إلى المعنى المستهدَف، وتبعده عمّا تشابه منه، تمامًا كما رأينا في الآية التي استشهدنا بها من سورة الأنعام.
بالطبع تُعَدُّ هذه اَلحالة المثاليّة التي ينبغي أن يكون عليها السارد، فالقارئ عادة ما يرتبط بالأعمال التي تشعره بحصافته وذكائه وفطنته، وتجعله مشاركًا في سيرورة الأحداث الذهنيّة، وتناميها معرفيًّا، حتّى الوصول إلى نتائجها التخمينيّة، قبل التصريح بها، ممّا يشعره أنّه أصبح جزءًا لا يتجزّأ من العمل، ولا يكتمل جماله الحقيقيّ إلّا به، فتجده ينبري للدفاع عنه ومحاولة ذكر مناقبه وإيضاح رسائله الضمنيّة؛ من هنا قد تجد بعض القرّاء والنقّاد تفوق حماستهم حماسة كاتب العمل، وقد يفهمون منه ما لا يفطن له الكاتب نفسه.
كلّ ذلك يتوقّف - بالطّبع - على قدرة السارد، من خلال خطابه السرديّ التفاعليّ، على إشراك القارئ في عمله، ومدى نجاحه في تطبيق المنهجيّة التي يستخدمها المدرّبون المبدعون، والمتحدّثون المتمكّنون والضالعون في العلاقات الإنسانيّة، والتي يمكن تلخيصها في تخليص القارئ من إحساس يراوده أحيانًا، ويكره العمل بسببه، عندما يشعر أنّ الكاتب لا يحترم قدراته العقليّة إذ لا يدفعه لاستحضارها أثناء القراءة؛ فينفر من الكتاب ومن كاتبه، لشعوره أنّه يصمه بالغباء - وإن لم يتقصّد ذلك - فيصبح إعجابه بهذا العمل إقرارًا منه بأنّه قارئ غبيّ وكسول.