من مظاهر الازدهار العلمي في القرن الرابع الهجري المعارك العلمية والأدبية، ومعارك ابن خالويه تمثل جانبًا من معارك هذا القرن، ومما وصل إلينا منها خبر معاركه مع المتنبي(ت353هـ).
وعلاقة ابن خالويه بالمتنبي مشهورة معروفة، استمرت في كنف سيف الدولة تسع سنوات من(337هـ-345هـ)(1 ). وكان المتنبي ينتقص من ابن خالويه، وقال الإمام السبكي(2 ): «وله مَعَ أَبي الطّيب المتنبي مناظرات عديدة»، وقال السيوطي(3 ):«وله مع المتنبي مناظرات». والذي وصلنا من أخبار هذه المناظرات نُتَفٌ يسيرة، منها:
1-قال ابنُ برِّيِّ( 4): «وفي البعير سؤالٌ جرى في مجلس سيف الدولة ابن حمدان وكان السائل ابن خالويه والمسؤول المتنبي، قال ابن خالويه: والبعير أيضًا الحمار وهو حرفٌ نادرٌ ألقيته على المتنبي بين يدي سيف الدولة وكانت فيه خُنْزوانة وعُنجهية فاضطرب، فقلت: المراد بالبعير في قوله تعالى: (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)[يوسف:72] الحمار، فكسرتُ من عزَّته».
2-ولما أنشد المتنبي مطلع قصيدته:
وفاؤكما كالرَّبْعِ أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ
بأنْ تَسْعَدَا والدَّمعُ أشفاهُ ساجمهْ
قال ابن خالويه: «يا أبا الطيب، إنما يقال: شَجَاه؛ توهَّمه فعلا ماضيًا. فقال المتنبي: اسكت، فما وصل الأمر إليك»( 5).
3-ومن القصص التي اشتهرت بينهما ما رواه عبدُ المحسنِ عليُّ بنُ كَوْجَك أنّ أباه حدَّثه فقال: «كنتُ بحضرةِ سيفِ الدّولة وأبي الطيِّبِ اللُّغويِّ، وأبي الطيّبِ المتنبي، وأبي عبدِ الله بنِ خالويه النَّحْويِّ، وقد جرَت مسألةٌ في اللّغة، تكلّم فيها ابنُ خالويهِ مع أبي الطيّبِ اللّغويِّ، والمتنبي ساكتٌ، فقال له سيفُ الدّولة: ألا تتكلَّمُ يا أبا الطيِّبِ (المتنبّي)، فتكلّم فيها بما قوّى حُجَّة أبي الطيّبِ اللُّغويِّ، وضعّفَ قولَ ابنِ خالويهِ.
فأخرجَ ابنُ خالويه من كمِّه مفتاحًا حديدًا؛ ليلكُم به المتنبّي، فقال له المتنبّي: اسكتْ ويحَك، فإنَّك أعجميٌّ، وأصلُك خوزيٌّ، فما لك وللعربيَّةِ؟! فضربَ وجهَ المتنبّي بذلك المفتاحِ، فأسالَ دمَه على وجهِه وثيابِه، فغضِبَ المتنبّي من ذلك، إذ لم ينتصرْ له سيفُ الدّولة لا قولاً ولا فعلاً، فكان ذلك أحدَ أسبابِ فراقِه سيفَ الدَّولة».
3-ومن السجالات الأدبية التي كانت بينهما أيضًا(6 ): «حضر المتنبي مجلس أبي أحمد بن نصر البازيار، وزير سيف الدولة، وهناك أبو عبد الله بن خالويه النحوي، فتماريا في أشجع السُّلمي وأبي نواس البصري؛ فقال ابن خالويه: أشجع أشعر، إذ قال في هارون الرشيد:
وعلى عَدوِّك يابنَ عمّ محمدٍ
رَصَدان: ضَوْءُ الصُّبح والإظلامُ
فإذا تَنَبَّه رُعْتَهُ وإذا غفَا
سَلَّتْ عليه سُيُوفَكَ الأحلامُ
فقال المتنبي: لأبي نواس ما هو أحسن في بني بَرْمك:
لم يَظْلمِ الدهرُ إذ توالتْ
فيهمْ مُصيباتُهُ دِراكا
كانوا يُجيرون مَنْ يُعادِي
مِنهُ فعاداهُمُ لِذاكَا».
وزاد ياقوت: «ثم قال المتنبي: أبو نواس أشهر في الدنيا من الدنيا:
قُلْ للذِي قَاسَ بِهِ غَيْرَهُ
أَقِسْتَ يُسْرَاكَ إِلَى اليُمْنَى
فَابْكِ عَلَى عَقْلِكَ مِنْ نَقْصِهِ
بكاةَ قَيْسٍ مِنْ هَوَى لُبْنَى»
وشخصيًّا أرى- رغم تخويف المتنبي من يعارضه في تقديم أبي نواس بالبيتين الأخيرين- أن ذوق ابن خالويه أعلى من ذوق المتنبي في هذا الاختيار؛ فقول أشجع المذكور توافرت فيه عناصر جمالية أكثر من شعر أبي نواس؛ من حيث حسن التقسيم، والصورة الجميلة المبتكرة المتمثلة في سل الأحلام السيوف والمقاتلة نيابة عنه في نومه، بينما قول أبي نواس أقرب للنثر من روح الشعر، ولا يقدح هذا في ذائقة المتنبي فذائقته فوق الشبهات، بل ذائقة الشعراء عامة فوق ذائقة اللغويين بكثير، ولكن السياق سياق مكايدة وتنافس غير موضوعي.
4- وقال ابن خالويه يومًا للمتنبي في مجلس سيف الدولة: «لولا أن أخي جاهلٌ لما رضي أن يُدعى بالمتنبي؛ لأن معنى المتنبي كاذب، ومن رضي أن يُدعى بالكذب فهو جاهلٌ. فقال: لستُ أرضى أن أُدعى بذلك، وإنما يدعوني به من يريد الغض مني، ولست أقدر على المنع»(7 ).
5- قال أبو الفرج الببغاء الشاعر( 8): وأذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بِدْرة فشقَّها بسكين الدَّواة، فمدَّ أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحَثَا فيه سيف الدولة صالحًا، ومددتُ ذيل دُرَّاعتي فحَثَا لي جانبًا، والمتنبي حاضرٌ، وسيف الدَّولة ينتظرُ منه أنْ يفعلَ مثل فعلنا، فما فعَلَ، فغاظَهُ ذلك، فنثرَها كلَّها على الغِلْمانِ، فلمَا رأى المتنبي أنَّها قد فاتته زاحَمَ الغِلمانَ يلتقطُ معهم، فغمزهم عليه سيفُ الدَّولة، فداسُوه وركِبُوهُ، وصارت عمامته في رقبته، فاستحَى ومضت بِه ليلةٌ عظيمةٌ، وانصرف، فخاطب أبو عبد الله بن خالويه سيفَ الدولة في ذلك، فقال: يتعاظمُ تلك العظمة، وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقتهُ».
6- ومن غير المشهور في العلاقة بينهما أن هذه الخصومة وثَّقها ابن خالويه في «أماليه»، ونقل قصائد الشعراء الذين ذمُّوا المتنبي، فقد قال ابن العَديم(ت660هـ) في «بغية الطلب»( 9) في ترجمة ابن بَطَّة: «شاعرٌ كان بحلبٍ في أيَّامِ سيفِ الدولةِ علي بن حمدان، وهجَا أبا الطيبِ المتنبي بأبياتٍ وجدتُها في بعضِ أمالي أبي عبدِ اللهِ بن خالويه. ذكر أبو عبد الله بن خالويه في أمالٍ أملاها أنه جرى بينه وبين المتنبي كلامٌ آلَ بِه إلى أن قالَ له في مجلسِ سيفِ الدولةِ:وهذا ابنُ بَطَّةَ يقولُ فيك لأنَّ أباكَ عَيْدَانُ السَّقَّاءُ:
بِحَقِّ المَزَادَةِ والرَّاوِيَهْ
وَفَضْلِ الفُرَاتِ عَلَى السَّاقِيَهْ
وَبِالدَّلْوِ تُزْهَى بِأَوْذَامِهَا
وَدَانِي مِيَاهِكَ وَالقَاصِيَهْ
وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ بَيْنَ الوَرَى
بِشِعْرٍ دَلَائِلُهُ وَاهِيَهْ
وَصَبْرُكَ لِلصَّفْعِ يُدْمِي القَفَا
بِجِيْرُوْنَ طَوْرًا وَبِالجَابِيَهْ
عَلامَ جَحَدْتَ أَبًا سَاقِطًا
وَقُلْتَ أَبِي سَيِّدُ البَــادِيَهْ
وَقَدْ بَانَ هَذَا فَلا تُخْفِهِ
فَلَيْسَتْ أُمُوْرُكَ بِالخَــافِيَهْ»
7-وقال ابنُ العَديم(ت660هـ) في»بغية الطلب»(10 ): «الطَّرَسُوسيُّ النَّجْرانيُّ الشَّاعر: وقفتُ على شيءٍ من شِعره في أمالي أبي عبد الله بن خالويه بخطِّ عليِّ بن ثَرْوَان الكِنْدي، ذكَر أنه نقلَه من خطِّ ابن خالويه، قال في أثناء كلامٍ جرَى بينه وبين المتنبي في مجلس سيف الدولة بن حمدان: وهذا الطَّرَسوسيُّ النَّجْرانيُّ يقول فيك يوم أرجفَ بقتلِك:
يَا دِرَاسَ النِّفَاقِ والكُفْرِ والتَّعْـ
طِيْلِ مُذْ بَادَ أَحْمَدُ المُتَنَبِّي
تَارَةً يَنْتَمِي إِلَى هَاشِمِ الجوْ
دِ وَطَوْرًا يَنْمِي لِصَخْرٍ وحَرْبِ
وَمَتَى مَا صَحِبْتَ تَصْحَبُ كَلْبًا
خَسَّ –واللهِ- أَنْ يُقَاسَ بِكَلْبِ
لَمْ تَكُنْ طَاهِرَ الوِلَادَةِ أَصْلِيًّا و
َفَرْعُ الدِّفْلَى(11) عَنِ الأَصْلِ يُنْبِي
إِنْ يَكُنْ كَانَ يَعْرِفُ الشِّعْرَ طَبْـ
ـعًا فَهُوَ لَمْ يَعْرِفِ اعْتِرَافًا بِرَبِّ
لَا يشُلُّ الإِلَهُ كَفَّ فَتًى أَهْـ
ـوَتْ إِلَى كَافِرٍ بِجَزْرٍ وَعَضْبِ
حَسْبُهُ النَّارُ وَالمَقَامِعُ يَصْلَا
هَا بِمَا كَانَ فِيْهِ وَاللهُ حَسْبِي»
فهذا الشعر وحرص ابن خالويه على تدوينه وتخليده في أماليه يصور مدى الخصومة والعداء الذي كان بينهما، ولكن رغم ما يظهر من فُجْر هذه الخصومة، فقد كان هناك بعض الإنصاف من ابن خالويه، وظهر هذا في عدة مواضع، منها:
1- حينما كتب «جزء فيما يحفظه الأميران ولدا الأمير سيف الدولة: أبي المكارم وأبي المعالي». ونقل عنه ابن العديم(ت660ه) في «بغية الطلب في تاريخ حلب»(2/639-640) قائلا: «كان ابن خالويه مؤدب ولدي الأمير سيف الدين: أبي المكارم، وأبي المعالي، فظفرت بجزء بخط ابن خالويه ذكر فيه ما يحفظه الأميران المذكوران، فذكر أنواعًا من الفقه والأدب وأشعار العرب وقال في جملتها: ويحفظان من شعر الشاعر المعروف بالمتنبي كذا وكذا قصيدة، وعيَّنَها، ولم يذكر أنهما يحفظان لغيره من العصريين شيئًا».
2- وصحب المتنبي سيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم ومنها غزوة الفَنَا، التي لم ينجُ منها إلا سيف الدولة بنفسه، وستة أنفار أحدهم المتنبي وأخذت الطرقَ عليهم الرومُ، فجرَّد سيف الدولة سيفه وحمل على العسكر، وخرق الصفوف وبدَّد الأُلُوف، فكان المتنبي يسوق فرسه فاعتقلت بعمامته طاقةٌ من الشَّجر المعروف بأم غيَلان، فكان كلّما جرى الفرسُ انتشرت العمامة وتخيَّلَ المتنبي أنَّ الرُّومَ قد ظفرت به، فكان يصيحُ: الأمانَ يا عِلْج، قال سيف الدولة: فهتفت به وقلت: أيما عِلْج؟! هذه شجرة علقت بعمامتك! فودَّ أنَّ الأرض غيَّبته. فقال ابن خالويه: أيُّها الأميرُ، أليس أنْ ثبَتَ معَكَ حتى بقيتَ في ستَّة أنفارٍ؟! تكفيهِ هذه الفضيلةُ! (12).
3-أنه في شرحه لديوان أبي فراس -وهو من أواخر ما كتب ابن خالويه- أورد عبارات تشير إلى تبجيل المتنبي وإنزاله منزلته، فقد قال: «فقال المتنبي شاعر سيف الدولة»، وأكثر من الاستشهاد بشعره(13 ).
فهذا دليل على أنه رغم الخصومة الممتدة عرف قدره وأنصفه، خاصة في آخر عمره، ولم يعدِل به أحدًا من شعراء عصره، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك جانبًا في شخصية المتنبي جعله صعب التألُّف ممن يحيطون به، وهي شدَّة الاعتداد بنفسه.
والخلاصة أنه كانت بين ابن خالويه وأبي الطيب المتنبي(ت353هـ) خلافات حول قضايا أدبية ولغوية جزئية، ورغم طول المشاحنات بينهما، وكثرة المواقف واشتهارها، وتحول المعركة لمرحلة تخليد الشعر المقول في ذم المتنبي ووالديه في أماليه، رغم ما فيها من قبيح القول، فإنها معركة لم تخلُ من إنصاف، خاصة بعدما انتهت المنافسة على وجه سيف الدولة برحيل المتنبي، وليس لهذه المعارك فائدة علمية بل أساءت إليهما أخلاقيًّا، ولابن خالويه أكثر.
(1 ) انظر كتاب مع المتنبي، لطه حسين، (ص 145)، مؤسسة هنداوي، 2013م.
( 2) معجم الأدباء، (ص1031)، وطبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، (3/270)، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر، ط2، 1413هـ.
(3 ) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (1/529)، المكتبة العصرية، لبنان، صيدا.
( 4) لسان العرب، (ب ع ر)، (2/112).
(5 ) انظر نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات الأنباري، (ص201)، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، ط3، 1986م.
( 6) أخبار أبي نواس، لأبي هفان المهزمي(ت257هـ)، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، (ص121)، مكتبة مصر، ومعجم الأدباء، لياقوت الحموي (ت626هـ)، (3/1044)، والصبح المنبي عن حيثية المتنبي، البديعي(ت1073هـ)، تحقيق: مصطفى السقا، محمد شتا، عبده زيادة عبده، دار المعارف، ط3، (1/79)، وأعيان الشيعة، لمحمد الأمين العاملي(ت1371هـ)، (25/54)، حققه السيد حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1406هـ/1986م.
وكلها نسبت البيتين لأبي نواس(ت198هـ) قالهما في آل بَرْمك، ونُسِبَا أيضًا لابن الرومي(ت283هـ) وهما في ديوانه، شرح أحمد حسن بسج، (3/25)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2002م. قالهما في بني طاهر، فلعلهما لأبي نواس قالهما في نكبة آل بَرْمك، ثم استشهد بهما ابن الرومي في نكبة بني طاهر؛ فظُنَّا من شعره، والله أعلم.
( 7) نزهة الألباء، (ص202)، ولسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، (2/267)، دائرة المعارف النظامية، الهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1971م.
(8 ) الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، (1/73).
(9 ) بغية الطلب في تاريخ حلب، (10/4665).
(10 ) بغية الطلب في تاريخ حلب، (10/4767).
(11 ) الدفلى: شَجَرٌ مُرٌّ أَخضرُ حسنُ المَنْظرِ يكونُ في الأَوْدِيَة. لسان العرب، (د ف ل)، (11/245).
(12 ) انظر الصبح المنبي، (ص(78-79).
(13 ) انظر شرح ديوان أبي فراس الحمداني رواية ابن خالويه (حسب المخطوطة التونسية)، تحقيق محمد بن شريفة، (ص18، ص20، 37، 56، 63، 67، 68، 69، 70، 71، 75)، مؤسسة البابطين، 2000م.
** **
د. محمد علي عطا - رئيس قسم اللغة العربية وعلومها - جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا
Ma.ata.2020@gmail.com