ترجمة د. طه الدوري
المدينة ...
كائن متحرك ...
نتحرك فيها ... وتتحرك فينا ...
خالد
قد يفتقد الكتاب للمتعة لغير المتخصصين، إلا أنه لا يمنع القول من أن هناك جوانب مضيئة نخرج منها بمجموعة من الأفكار والمفاهيم التخطيطية، مثل الأثر الثقافي والأماكن الطبيعية، ودورها في تخطيط المدن، ثم ننتقل إلى أهم ما يجعل المدن للناس، وهي الساحات وكيف تتشكل وكيف تبرز، ونستكمل رحلتنا إلى فكرتي "التراكم التخطيطي"، و"الاندماج مع المدينة".
تتكون المدينة من خلال عاملين رئيسيين هما العنصر الثقافي، والعوامل الطبيعية. فالعنصر الطبيعي يعمل غالباً كمنشئ للمدينة مثل باريس التي "كان نهر السين العمود الفقري للنمو التصميمي"، وكان هو المنشأ الذي انطلقت منه المدينة.
بالنسبة للعنصر الثقافي، فيتضح عند الإنسان الإغريقي واهتمامه بالفراغ، فمزارات أثينا ـ وهي ملاحظة ذكرها لي أحد الأصدقاء ـ تعبّر عن حضارة مجتمع وروح الحياة فيه، بينما المدينة المصرية القديمة تعبّر عن تقديس للحاكم. ففي أثينا نجد "الأكروبوليس"، وفي القاهرة نجد هرم "خوفو" في الأولى نتحدث عن مكان تجمع، وفي الثانية عن قبر حاكم.
يتحدث المؤلف عن الساحات التي ازدهرت في عصر النهضة وتحديداً في إيطاليا بشكل عام، وساحات فلورنسا بشكل خاص. ومع ذلك فإن أشهر ساحة إيطالية لم تكن في فلورنسا بل كانت في روما حيث شهد تصميم الساحات ذروته في ساحة القديس بطرس بكل مكوناتها وأهمها الفاتيكان، كتأكيد على تمحور فكرة الساحات الإيطالية حول تعظيم الكاتدرائيات، فكل عناصر الساحة الإيطالية سواء مسلات، جدران، مباني تصب في خدمة هدف واحد وهو إبراز قيمة الكاتدرائية.
من الأفكار الجميلة في الكتاب، ما يمكن ان أسميه بفكرة "التراكم التخطيطي"، فالحياة كما يقول المؤلف "دفق مستمر من التجارب إذ تسبق كل فعل أو لحظة من الزمن تجربة تغذو عتبة لتجربة تالية" وهذا تأكيد على فكرة التراكم التخطيطي، فكما أن هناك تراكماً حضارياً، فهناك أيضاً تراكماً تخطيطياً يشكل المدينة.
فساحة الكامبيدوليو في روما تسلسلت مراحل التصميم فيها، بتمثال ماركوس أوروليوس، ثم إدراج مبنى قصر النواب، وإضافة عناصر أُخرى، وهكذا حتى تكونت الساحة. أحياناً نرى المكان وروعته ونعتقد أن هناك شخصاً واحداً خلفه، ولا نعلم أن خلف المكان أشخاصاً، وأفكاراً تنوعت عبر الزمن، وهذا ينقلنا إلى فكرة جميلة طرحها المؤلف أستطيع أن أُسميها بـ "الاندماج مع المدينة".
المؤلف يتساءل "هل ينظر المصمم إلى عمله من منظار عين الطائر المترفع المتجرد بالعقلانية؟ أم أنه قادر على إسقاط ذاته في شخص المشارك، وتصور تصميمه عن طريق ما سيكون له من تأثير في حواس الناس الذي سيستعملون البناء؟". وهذه العبارة جميلة، فالساحات بشكل خاص والمدن بشكل عام، والتي تكونت عبر الزمن لا بد أن سبقها مصممين ومخططين جالوا ومشوا فيها، فتخيلوها بطريقة ما، وهذا الخيال لن ينجح بالتأكيد إلا بالغوص في أعماق المدينة، والبحث عن أصدافها، ولؤلؤها وكنوزها، فالمخطط لا بد أن يندمج مع المدينة، لتكون "مقرونة بأنفاسه"، و"حديثه بين جلاّسه" و "بقلبه بين وسواسه"، وأن يرى "خيالاً منها في كأسه"!.
أخيراً ...
التخطيط تخصص بطيء في تطوراته ...
عميق في متغيراته..
ولكن المتغير الواحد يحتاج عقود لفهمه بعمق ...
واختبار نجاحه من عدمه ...
ما بعد أخيراً ...
تخطيط المدن ...
تخصص عظيم.. لا تلبسوه ثوباً غير ثوبه
** **
- خالد الذييب