أعبر كلَّ الطرق، كلها طريق واحدة مستبدة، لا أجد طريقاً تُفضي بي إلى حيث تبزغ الشمس، أليس ليلي الطويل العنيد، ليل طويل لا منتهى له؟ يحرقني عطشي الشديد! أجدُ كلَّ الطرق تحملني إلى حيث تريد هي.. إلى حيث انشقاقها الطويل الملتوي، هل أنا تائهٌ بين كلِّ الطرق المتقاطعة؟ هل بحثت جيداً عن طريق أخرى تشبه ألمي وحزني وذلك العطش الذي لا ينطفئ ؟ أعزم على المشي عبر طريق أختارها بعناية ثم أراها ـ بعد أن أبلغ منتصفها ـ تحيد بي رويداً رويداً إلى أن تسلِّمني إلى طريق أخرى مشابهة لها. يتكرر ذلك الأمر مراراً، أصرخ بأعلى صوت: أين الطريق التي تأخذني إلى ضوء الشمس لأنعتق من ليل طويل يتنكبني؟ لكني لا أجد أحداً يسمع صراخي أو يفزع لغضبي، فكل من أراهم يدخلون معي في طريق ما لا أجد علامة غضب أو حزن على وجوههم، فيزداد ألمي.
حالة التيه تغمرني، تجعلني أجرِّبُ كل طريق أمامي، طالت أم قصرت، علَّني أجد فيها ملجأ أو مغاراً أفرُّ إليه من عطشي وتلك اللزوجة التي التصقت بجسدي.
ندّت الذاكرة يوماً عن ذلك الصاحب القديم الذي رأيته ساعة مضت يسلك نفس طريقي، يسير بجانبي يحاكيني عن ألمه وحبه، عن ليله الطويل الطويل. كنت غرّاً، قلت له كلمات جعلته يعبر طريقاً جميلة رائعة، كنت أدركه ولا أصله، سمع كلماتي وسلك الطريق التي أفضت به إلى عالمه الخاص. هناك أدرك أن الطريق انتهت وحان وقت المكوث الطويل. تحسَّرت على تلك النصيحة، كيف لم أدخرها لنفسي الآن؟ كيف جعلتها تفلت من بين طرقي المتشابكة المتآمرة؟ كنت كلما أعندتني الطرق الهائمة وأفضت بي إلى التيه الكبير، أستريح بذاكرتي إلى صاحبي القديم، أتأمل كلماته ومعاناته قبل أن يفضي إلى طريقه. كنت أتأمل ـ عبر الذكرى ـ ملامح وجهه يعشب فيها التيه والذهول، تستهويني بطولتي وفنائي حين عبرت به إلى طريقه، أنتشي وأعبر فجيعتي الأولى، أبحث عن طريق توصيني بطريق أخرى ممتدة، يحمل عن كتفيّ كلَّ ذلك الهول الذي لحق بي، يدرك سبباً لسيري الطويل التائه.هكذا كنت أحسب الطرق الملتوية الأعناق المتعاقبة التي لا تأخذني إلّا كي تسلِّمني إلى طرقٍ أخرى مُراوِغَة.
وقفت أمام طريق ممتدة بعناية.. باستقامة مذهلة. كنت أراهن على أن هذه هي الطريق الأخيرة؛ الطريق التي تشبه ما كنت أحلم به وأرجوه.كنت حاذقاً هذه المرة، فلا وقت للعب.. لا وقت للتجريب..! عندما كان العطش يأخذ من نفسي كل مأخذ، يستبدّ بي ، كانت عيناي تقدحان بماء السماء نهاية كل طريق أبتغي ولوجها، ثم أعبر فلا أجد إلا الخواء والسراب يدوّي . الآن حجمتْ عينيّ عن فعل ذلك، فلا وقت للتيه، لا وقت للعودة والفراغ، لا وقت لهذا الليل المنسكب أبداً! شاهدت الطريق جيداً، رصدتها نفسي بدقة. قررت أن أفتح عينيّ جيداً هذه المرة كي أجلو صورة الطريق جيدة. فتحت عقلي وكلَّ مسام جسدي لاستقبال الطريق الممتدة. وكي أفنى في سبيل تحقيق طريقي سمحت لذاكرتي المسكينة العبور بي إلى حيث تريد، لم أتحفَّظ على شيء تطلبه، لم أنفر أو أتقزَّز من استدعاءاتها الدنيئة ـ كما كنت دائماً أفعل ـ جعلت لذاكرتي حرية وانبساطاً لم أنلهما أنا طيلة حياتي. لا يهم ما دمت وجدت طريقاً ممتدة ستقضي على التيه والذهول.. والليل الطويل الطويل. صمدت بقوة رجل متمكِّن أمام ذكرياتي المتقاذفة، طببت نفسي بدائي؛ فأمامي طريق طويلة هي طوق نجاتي، هي عنوان عبوري، فاجعتي الأولى. تجرأت ومددت قدمي اليمني لأخطو أولى خطواتي؛ كانت خطوة واثقة جامدة متمكنة. ذُهلت وأنا أرى قدمي تمتدُّ بكلِّ ثبوت وثقة طاغية! كانت خطوتي الأولى قوية ساقطة. سمعت خلفي أصوات الطرق القديمة تتصادم.. تتفانى. رأيت اهتزاز نفسي وكأني أخرج للعالم من جديد. رميت بقدمي اليسرى على ظهر الطريق فوقفت بثبات. أبصرت أمامي جيداً، ومن بعيدٍ كنتُ أرى صاحبي القديم الماكث أبداً، يشير إليَّ بكلتا يديه.. أَنْ أَقْبِلْ؛ هذا مغتسل بارد وشراب.
** **
- عبدالكريم النملة