لليل لمساتٌ خادعة
يدا حنونة، جرعات مهدئة
تمسح على القلب أول نزوله
تسيل ببطء نحو الأطراف
من أصابع القدم تتدفق المشاعر الساكنة
عذبة كالنهر، نقية وصافية في حضورها
فتمنح الجسد نشوةً، تمنحه كل ما يبحث عنه
ليغرق حالماً، هائماً في عالم الذكريات
يطوف في شوارع طفولته التي قد نسيها
يطوف ويقطف حبات اللوز من شجرة أمه
ويسمع ضحكات جده من خلف السور
يقول: لا تقطف اللوز فطعمه المر لا يزال على ظهره
وحلاوته لا تأتي إلا بعد أن يحمرّ لونه
سُكرٌ وطري هذا ما ستحصل عليه
هذا هو الفوز إن انتظرت
واللوز في الجنوب لا يزورنا إلا في الصيف
اللوز يحب شجرة أمي والعصافير تشاركنا في أكله
اللوز يحمل رائحة الانتصار
لأنه شاهق لأن من يصله يتسلق السور الكبير
يمد عصاً ويضرب
. . .
يغرق هائماً في الذكريات
في حضن المرأة التي أحب
في حضن صديقة الطفولة
ورفيقة الدراسة
وصاحبته في كل المغامرات الخفية
من تتعاقب معه، من تُضرب كلما ضُرب
من تختبئ في لعب الغميضة بجانبه
لتهمس في أذنه، حين نكبر سنتزوج
ونرزق بطفلين اثنين، يوسف ويونس
يحلم بها، بحضنها الأمومي
يسكن إليها من التعب
هذا هو الأمر
إنه مجرد تعب من اللا شيء
فقط من التفكير الطويل
يطوف بعينيها البنيتين
متى كَبُرتِ؟ متى أصبحنا معاً
متى الحلم أقبل وتحقق
متى طُرقت الأبواب وفُتحت النوافذ
والتقينا معاً في منزل واحد
يصرخ، يبكي على صدرها، يشدها إليه
ها أنت ذا لم ترحلي
ها أنت ذا بين يدي كُنتِ وبين يدي باقية
لثوانٍ فقط
يثمل ويصرخ ويضحك ويتجرع الانتصار بشراهة
يقول: أنا أيتها الحياة قد وصلت، متحايلاً على القدر
لثوانٍ فقط يُحلق برفقة الحياة التي لن تكون
ثم لا يلبث أن يستفيق
ومخالب الوحدة تنهش في صدره
والظلام في جوفه يمكث كالمستنقع
سوادٌ يغطي لا جلده فقط بل روحه
تتآكل الضحكات في نار الواقع
يسمع صوت فرقعتها وهي تتبخر، تختفي وكأنها لم تكن
يرى السواد يتشعب، يتمدد، وعميقاً يتسرب
فينخر العظام ليوقظ الألم الكامن
ليعيد الواقع إلى الروح الهائمة في المدن الضائعة
ينخل الذكريات ولا يطفو على سطحه المظلم
سوى الشتائم والألم
سوى الركلات التي كان يتلقاها الطفل الفقير
والشجرة.! يراها الآن، يتذكرها الآن
الشجرة التي ماتت واقفة، ماتت شامخة
ماتت وهي تحاول النجاة بعد أن تخلت عنها يد الأم
بعد أن تخلت عنها السماء
بعد أن هجرتها العصافير وتساقطت أعشاشها
بعد أن هزمتها الشمس
ماتت واقفة لتُري المارة أنها هنا بقيت
ها هنا كانت الحياة، كانت الأحلام تنمو
ها هنا رحل الحلم لآخر، كبر الحلم وسافر
وأنا بقيت، أحرس الأحلام الصغار
التي لم تنجو
أُظِل الذكريات، أخبئ العصافير
بقيت ولكن لا شيء باقٍ هنا، سوى الفراغ
لا شيء سوى الرحيل
. . .
ينخل الذكريات ولا يبقى سوى
لحظات الفراق
رائحة العطر الذي تبخر منذ عهود مضت
صور مهترئة لجديلة طفلة، صورٌ تحفظها البصيرة جيداً
لا يبقى سوى الحلم البارد لدفء الجسد الذي لن يعود
الجسد الذي كان يريده أو ظل يريده ليكبر بين يديه
ليشيخ بجانبه، ويحمل أطفاله في أحشائه
الجسد الذي كان مسكنه، كان طمأنينته
والملجأ الآمن بعد حربه اليومية مع القدر
حربه التي لا تزال
مع العالم، مع فقره، مع بشاعة وجهه
ومع ندوبه التي تذكره دائماً بطعم الألم
الحرب التي يهزمه فيها المال
وترفسه الحاجة
فيصبح رغما عنه، عبداً لذلك المال
عبداً للعمل، عبداً للطاعة
ولكل من يركله، يشتمه، ويتصدق عليه
عبداً لكل أسياده
لأنه في نهاية الشهر
يحصل على ما يسد به رمقه، ويروي به عطشه
ويجعل الجسد الغائب، ينام بين يديه
. . .
الجسد الراحل يعود الآن
يراه في الظلام
يراه من خلال النافذة المفتوحة
يعبر بخفة ليتمدد بجانبه
يحس به، يشم رائحته
يراه ولا يلمسه
يراه ولا يستطيع أن يُقبِّله
يغمض عينيه رغم معرفته بأن إغلاقها لن يبيد الظلام
ولكنه يغمضها لأن النافذة مفتوحة الآن
لأن الذكريات قادمة، لأن الأحلام تريد أن تعود
تريد أن تنمو في داخله، تريد أن تحيا
يغمض عينيه وهو يحس حلاوة اللوز في فمه
وهو يشعر بحرارة الجسد بجانبه
وهو يعلم أنه في الحلم سيكون.
** **
- عُلا الحوفان
Twitter: @Ola29x