مشعل الحارثي
في وداع مهيب وحزن عميق ودعت البلاد قامة من قاماتها الوطنية البارزة ورجل دولة من طراز فريد ومن خيرة الرجال خلقاً وأدباً ونبلاً، وأحد الذين نذروا أنفسهم لخدمة دينهم ووطنهم وقيادتهم الرشيدة معالي وزير الحج الأسبق الدكتور محمود محمد سفر - رحمه الله.
كل نفس لها من الموت حظ
إنما الموت غاية الأحياء
سنة الله في البرايا
وما كان لحكم الإله من الغاء
ومعاليه سليل أسرة كريمة بمكة المكرمة ومشهود لها بأعمال الخير، ومسيرته حافلة بالكفاح والعمل والعطاء والإنجاز فهو من مواليد عام 1359هـ وحاصل على البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة القاهرة، ودرجة الماجستير في الهندسة المدنية من جامعة ستانفورد بكاليفورنيا ودرجة الدكتوراه في الهندسة الأساسيات وميكانيكياته من جامعة شمال كارولينا ودبلوم الإدارة العليا للرؤساء التنفيذيين من جامعة ستانفورد، وبعد عودته للوطن تدرج في العديد من المناصب بدءاً من عمله معيداً بجامعة الملك سعود بالرياض، ثم أستاذاً مساعد، فالأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات، فوكيل وزارة التعليم العالي، فرئيس جامعة الخليج بالبحرين، فأستاذ الهندسة المدنية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ثم وزيراً للحج.
وعندما تولى وزارة الحج عمل بكل إخلاص وتفان على تقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن وقاصدي الحرمين الشريفين وكان حريصاً على أن كل ما ينفقه الحاج يجب أن يجد ما يقابله من الخدمات، فعمل جاهداً على إرساء العديد من التنظيمات الإدارية والمالية بوزارته ومؤسسات الطوافة ومكتب الوكلاء الموحّد والزمازمة، ورفع شعار (خدمة الحاج شرف لنا) وجعل جميع أفراد وزارته ومن لهم علاقة بها يعملون ضمن فريق واحد لتحقيق هذا الشعار قولاً وفعلاً.
وقد كنت أشاهد معاليه عندما كنت أشارك ضمن الوفود الإعلامية المكلَّفة بتغطية شعائر الحج وهو دائب الحركة ليلاً ونهاراً للوقوف على مستوى الخدمات المقدمة للحجاج، وكنا كإعلاميين نجد منه كل العون والاهتمام وتلبية مطالبنا وتذليل كافة الصعاب لأداء مهمتنا ويعطي تعليماته للأجهزة المعنية لديه بتزويدنا بكل الأخبار والتقارير الإعلامية وكل ما يتعلق بنشاط وزارته وأعمالها بكل وضوح وشفافية.
وقد تم تكريمه في اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة -رحمهما الله جميعاً - ووسط كوكبة حاشدة من أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة ورجال الإعلام ومحبيه وعارفي فضله، وفي تلك الأمسية رحب به الشاعر اللغوي اللوذعي الشاعر أبو تراب الظاهري -رحمه الله - وأتى على ذكر الكثير من صفاته ومناقبه ومما قاله فيه:
جمان ها هنا انتثرا
لمحمود وقد سفرا
فأهلاً بالذي حل
بساحتنا ومن أثرا
ومن يك شيخه سفر
فمحمود به ظفرا
لبيب فاضل لقن
حصيف يبدع الفكرا
حميد الخطو واسعه
مناقبه ازدهت زمرا
ومن آي الجمال له
تواضعه وقد كبرا
وعهدي من شبيبته
عفاف عن هوى كدرا
وتوقير لمن كبرا
وتحنان لمن صغرا
وجد زاهد يقظ
لنيل العلم مصطبرا
فاعلي الله منصبه
فلان له الذي انحجرا
وبلغه المنى سنحاً
فعاد اليوم منتصرا
واغناه بآداب
فلست تراه مفتقرا
وكان الفقيد -رحمه الله- من المثقفين اللامعين وله آراء صريحة وواضحة في بعض المشكلات التي تواجه المجتمع وكل ما يتعلق منها بتعليمه وتنميته وتطوره والارتقاء به، وشارك بمقالاته في معظم الصحف والمجلات المحلية والعربية، وله العديد من الأبحاث والدراسات والكتب والمؤلفات، وألقى الكثير من المحاضرات العلمية والاجتماعية والمتخصصة، وما زلت أذكر عندما تقدمنا لمعاليه بطلب أن يكون ضيفنا في إحدى ندوات الجمعية السعودية للإدارة فرع جدة وكنت وقتها نائباً للرئيس والمسؤول الإعلامي بالجمعية فرحب معاليه مسروراً فألقى بتاريخ 2-8-1424هـ محاضرة قيمة وبطرح مميز عن (التعليم الفعَّال عماد الإنتاجية).
وبعد أن غادرنا معاليه إلى جوار ربه راضياً قرير العين فليس لنا إلا الدعاء له ولأمة المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات بواسع المغفرة والرحمات من رب العزة والمكرمات، وأن يجزيه عن كل ما قدم من أعمال يبتغي فيها رضا مولاه بخير الثواب والعطيات.
أيها الراحل العزيز ولا غرو
فأنت الأحرى بهذا الرثاء
في جنان الخلود لازلت تحظى
بجمال الثوى وحسن الرواء
أمطرتك السماء صوباً من الرحـ
ـمة والخير مثل صوب السماء
وعزاء إلى جميع المحبـ
ـبين وآل (الفقيد) والأصدقاء
تغمده الله بواسع رحمته الله وعوّضنا عنه خيراً، وأسكنه فراديس جناته وألهم أهله وذويه وعارفي فضله جميل الصبر والسلوان و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.