حسن اليمني
هل هناك فعلاً ثقافة إسلامية جديدة تتشكل من خلال علاقة منفتحة مع العالم كما يراه «باتريك هايني» في كتابه (إسلام السوق ) في تحليل (سوسيلوجي) ظهر ملمحه أيضاً لدى «جي ديبور» في كتابه (مجتمع الاستعراض) وأسهب في شرحه وتحليله بشكل أدق الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله في طروحاته عن العلاقة بين العلمانية والحداثة والتسويق الاستهلاكي تجاه الهوية الإسلامية وثقافتها, الأكيد أن أحداثيات العلمنة بجوانبها الرأسمالية والنيو ليبرالية مع تفتق التقنية وتقدم الآلة وعلمنة التجارة والعلاقات البينية بين بين الأمم واتصالها بشبكة عنكبوتية واحدة ربطت أجزاء العالم الاجتماعية في دورة حركة واحدة كل هذا لابد وأن يولّد ثقافات جديدة تقترب من بعضها متجاوزة محاور الهوية وإرث التاريخ.
الموضوع فعلاً حيوي ومستحق للطرح لكنه غير ذي أهمية إلا لنسبة قليلة من قراء مقال في جريدة يومية, لكنه مطروح وبقوة في العمق الثقافي الباحث في تحولات فكر وثقافة الأمم والمجتمعات يستحق على الأقل الإشارة إليه ليعطي فهماً ولو بشكل عناوين لكثير من التحولات والتبدلات في الأفكار والسلوك ومعطيات التفاعل الحياتية اليومية التي تُظهر مستجدات متغيرة بشكل متسارع لدى رموز ونخب (إسلاموية) الاتجاه, أبرزه وأوضحه التحول من الصلابة إلى الليونة أو السيولة والعكس أيضاً في الآراء والأفكار وتبدل المواقع وتجاذب المسافات بين الدين والسياسة والفصل بين الماضي والمستقبل من خلال تأصيل الحاضر وتسويقه.
لا أحد ينكر أو يجهل أن منتجات العصر في الاتصال والتواصل والتسويق قد ضربت وخلطت ومزجت كثيراً من وشائج الثقافات بين أمم الأرض حتى أصبح وكان هناك هوية وثقافة دنيوية واحدة للبشر ليس لها تاريخ أو إرث تاريخي تقف عنده, بل صارت الرفاهية في المأكل والملبس وحتى قصّات الشعر وبديهيات الاهتمام اليومية تبدو متشابهة إلى حد الانسجام وبما حوّل الأمم إلى أمة بشرية واحدة برغم تفاوت قوة وعمق الهويات التاريخية وتشعبات جذورها, والأمر كذلك, إذن ونتيجة لذلك لابد أن تحوّلاً وتغيّراً في الفهم والفكر والوعي في الحراك الفكري والثقافي حدث أيضاً في العقول لدى الرموز والنخب العربية والإسلامية يلزمها الخروج من بوتقتها المغلقة لتتماهى وتنسجم مع حركة الحياة, ونشاهد ونعايش مثل هذا التحوّل والتغيّر في الرأي والفكر والموقف لدى كثير من البارزين على سطح المشهد بما يحيّر عقل من لم يستوعب إمكانية تجدد الفهم والوعي كنتيجة حتمية لهذا الخلط والمزج الطبيعي بين الأمم الذي صنعته منتجات العصر غير المسبوقة وربما عدت فوق تصور خيال التاريخ القريب, على الأقل لدى الإنسان العادي في عامة الناس لكن كثيراً من المفكرين في هذا العالم كانوا قد استشرفوا بعض ملامح هذا التحول في مؤلفاتهم ولعل «نوربرت فينر» وهو يعتبر أحد أهم مؤسسي علم السيبرناطقية والتي تعني علم إدارة الأحياء والتحكم بهم أو مايعرف اليوم بالسيبرانية التي أصبحت اليوم من أهم الأسلحة العصرية في الإدارة والتحكم بأي نظام يستخدم التقنية للسيطرة وإدارة الأحياء (الإنسان) يعطي مثالاً لذلك إذ أشار إلى ما يحدث اليوم قبل أربعينية القرن الماضي.
نحن مسلمون لكننا أيضاً أمة بين أمم الأرض نؤثر ونتأثر, وبالتالي فإن التحوّل والتغيّر أيضاً طالنا بشكل طبيعي, لكن التفصيل في هذا الجانب - لا أقول إنه غير مهم - ولكنه ليس محور هذه السطور وإنما الإشارة إلى طبيعة الحراك في التحوّل والتغيّر في حال الأمم تحت قوة نتاج العقول البشرية التي أوصلت عالمنا اليوم إلى عالم مختلف تماماً عن ما قبله لعلها مفيدة وإشارة مستحقة, ويكفي أن أتحدث عن إسلام السوق كما عرّفه «باتريك هايني» والذي رآه يتجه نحو الثورة المحافظة أو بصيغة أدق نموذج على الطريقة الأمريكية - كما يقول - لكن في المضمون أشار إلى أن التوجه نحو التأكيد على الهوية الإسلامية بطريقة تمنح القيم والعواطف والسلوكيات الدينية فرادتها التي تربط بين المجال الديني والحقل الاقتصادي وليس من خلال تسيّس الإسلام, هذا حسب فهمه ليصل إلى نفي صراع الحضارات في تحليل (رغبوي) أو غير ملم بشكل جيد بالدين الإسلامي, لكن بناءه التحليلي للوصول إلى هذه النتيجة والتي استندت على «سيبرانية» العصر وقدرتها على خلط ومزج الهويات والثقافات الأممية لإنتاج هوية وثقافة عالمية موحدة ربما أعطته هذا الاستنتاج, في حين يتحدث «جي ديبور» في كتابه مجتمع الاستعراض عن عمق الفهم «السيبرناطيقي» الذي استبدل المظهر بالمضمون لتحول السلوك الإنساني إلى ما يشبه التسويق الاستعراضي الذي يوسع ويشبع الاستهلاك معتمداً على إنتاج مصانع الأموال تلك التي تدير وتحكم وتسيطر على الإنسان ونمط وأسلوب حياته بعيداً عن هويته وثقافته وحتى تاريخه.