(1) ط. دار المنهاج - جدة - ط1، 1434هـ - 2013م
كان الغزالي فيلسوفاً فقيهاً أصولياً صوفياً مع ذكاء متوقد، وحجة قوية، وبصيرة ثاقبة، وقد عنى ببيان حياته الفلسفية والتعليمية والصوفية، وما مرّ به من تجارب العقل، وتقلبات الذهن، حيث كتب الغزالي كتابه (المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال) وهو يدخل في العقد الخمسين من عمره القصير، ويعده الدارسون من كتب السير الذاتية، والتراجم النفسية، كما يقص علينا فيه تلك الأزمة الفكرية التي مرت به في حياته، ويحكي لنا قصة بحثه عن الحقيقة وأنه خالط كلاً من المتكلمين والفلاسفة والباطنيين وأهل التصوف حيث قسم الناس ضمن هذه الفئات الأربع وكيف سبر غور كل واحدة منها وانطباعه عنها، فهو ذو فراسة حادة، ويقويها بالتقصي والتعمق والتثبت والبرهان (ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة،.. وأتفحص على عقيدة كل فرقة واستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محب ومبطل ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ولا فلسفياً ولا متكلماً إلا واجهته في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقاً معطلاً إلا أتجسس من ورائه للتنبه لأسباب جرأته، وتعطيله وزندقته) غير أنه في داخله مؤمن بربه فهو كما يقول: (لكنني أؤمن إيماناً يقيناً ومشاهدة أن لا حول ولا قوة إلا بالله وأني لم أتحرك لكنه حركني وأني لا أعمل لكنه استعملني، فأسأله أن يصلحني ثم يصلح بي، ويهديني ثم يهدي بي، وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه).
هذا وقد وقف الغزالي بنظره شمولية إلى طفولته ونشأته وتعليمه، بل كل ما أدلى به عبارة عن إشارات سريعة اقتضاها واقع الحال، وقد أغرم بحب العلوم جمة على تعدد أنواعها وتفرق أصنافها والغوص في أسرارها والانكباب عليها، فهو حينما يروم فناً من فنون العلم يشرب منه حتى الثمالة وهذا طبع جبل عليه منذ الصغر، ويعتبر الانكباب على العلم وحب المعرفة من أبرز ما جاء في هذه السيرة، كما تعد هذه الترجمة ثبتاً للبعض من مؤلفاته، فقد عرض للبعض منها حين تحدث عن سماته الشخصية وإخفاقاته الذاتية، وفي السيرة وصف عن العزلة، فهو قد شد العزم عن الانصراف عن الحياة وملذاتها واعتزل العلم والتعليم، وترك بغداد بروح زاهدة وطاف الأرض، وزار دمشق والقدس قبل أن يكحل ناظريه برؤية مكة والمدينة، وقد استغرق في تطوافه، ما يقرب من عشر سنين، وعن رحلاته يقول: (ثم دخلت الشام وأقمت بها قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة... وكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها على نفسي). ومن دمشق الشام توجه إلى بيت المقدس ثم إلى الحرمين الشريفين مكة والمدينة شرفهما الله، وذلك لأداء فريضة الحج، فيقول: (ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز). ثم عاد بعدها إلى دمشق الشام كرة أخرى وأبو حامد الغزالي صورة صادقة للعصر الذي عاش فيه فهو يصفه بصدق وصراحة وببيان وتبيان بعيدة كل البعد عن التكلف، بل حديثه يشوبه العفوية وقول الحقيقة وقد صور لنا سلوكه والذي يثير العجب في مضمون ما كتب، من خلال تحليل نفسي جاء مرسوماً بفنية ودقة عاليتين، فأهل الفلسفة وأهل الباطن وأهل الكلام في أوضاع مزرية رسمها بذوق تاريخي هو أقرب لسرده من الذوق الأدبي مع إشارات شعرية أضفت على المقال بهاءً وجمالاً.
وهو قد التمس طريقه أهل التصوف وسار على منوالهم ونهج نهجهم وبين أن التوفيق والإنعام من تقدير العزيز الحكيم وليس من كسبه وكدحه وعمله، وقد أبدع أبو حامد الغزالي في وصف رحلته العقلية من يقين الحقيقة إلى ظلمة الشك ثم خروجه من قوقعة الشك إلى رحابة اليقين وطمأنينته وسكونه، ويمعن في تصوير مرضه فيقول: (لم أزل أتردد بين شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر أولها رجب ثماني وثمانين وأربعمائة وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطبيباً لقلوب المختلفين إليّ فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب فكان لا ينساغ لي شربه ولا تنهضم لي لقمة وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم، ثم أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر إذا دعاه). ويصف الداء أيضاً قوله: (فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين وأنا فيها على مذهب (الشك) السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال حتى شفي الله ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال) وقد شفاه الله منه من الله عليه وبنور قذف في قلبه لا بعمل أو ترتيب: (ولم يكن ذلك بنظم دليل أو ترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف).
وعماد هذه السيرة وذروة سنامها في استرجاع الذاكرة وهو يحمل بين جنبيه ذاكرة قوية جداً وقد احتفظت بما لاقاه من شك وحيرة وتشتت حيث يقول: (وأحكي.. ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق) ذلك وهو القائل عن نفسه وذاته:
فإن كنت في زهد الأئمة راغباً
موطن على أن ترتكبك الوقائع
بنفس وقور عند كل كريهة
وقلب صبور وهو في الصدر قانع
لسانك مخزون وراسك ملجم
وسرك مكتوم لدى الرب ذائع
وذكرك مغمور وبابك مغلق
وثغرك بسام وبطنك جائع
وقلبك مجروح وسوقك كاسد
وفضلك مدفون وطعنك شائع
وفي كل يوم أنت جارع غصة
من الدهر والاخوان والقلب طائع
نهارك شغل الناس من غير منة
وليلك شوق غاب عنه الطلائع
فدونك هذا الليل خذه ذريعة
ليوم عبوسٍ عز فيه الذرائع
والغزالي اختار عنواناً أدبياً مسجوعاً على عادة أهل ذاك الزمان فقال: (المنتقد من الضلال والمفصح بالأحوال) وهو ينم عن ماهية ما كتبه، وكنه ما سطره، وقد كتب الغزالي هذا الكتاب قبل أن يتمحور مفهوم السيرة الذاتية والترجمة النفسية، لذا فهذه القراءة المتواضعة تُعنى بالجانب النفسي الذاتي التاريخي والفني أيضاً، وليت الغزالي أطال في وصف نفسه فهو قادر على تصوير النفس ورسم الذات، فعن طبائعه وغرائزه يقول: (وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله تعالى وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي).
ويغلب على شخصية الغزالي التواضع والبساطة فهو يرسم شذراته في هذه الترجمة النفسية، ويودعها يكتب لها الدوام والبقاء والاستمرار، استجابة لأخ في الدين فيقول له: (فقد سألتني أيها الأخ في الدين أن أبث لك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها) ثم يفرحه بقوله: (فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك بعد الوقوف على صدق رغبتك).
وأبو حامد الغزالي عاش في حياته أطواراً أربعة لا خامس لها فهو اعتنق الكلام ثم عاد عنه واعتنق الفلسفة ثم اجتواها وكرهها وأبغضها، ثم اعتنق الباطنية ورجع عنها، وآخر اعتقاده كان طريق الصوفية فهو يتحدث عن هذا الجانب بقوله: (ما استفدته أو من علم الكلام وما اجتويته (يعني كرهته) ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين... وما ازدريته من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف). ثم يقول عن خلاصة ما استفاده التالي: (اعلموا - أحسن الله إرشادكم وألان للحق قيادكم - أن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة الطرق بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهو الذي وعدنا به سيد المرسلين صلوات الله عليه وهو الصادق الصدوق حيث قال: (ستفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة» الناجية فقط واحدة وقد كان ما وعد أن يكون).
ومن نافلة القول وشجونه الإشارة إلى إمام الأئمة وعلامة الأمة، ابن تيمية حينما سئل عنه قال: (الغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة بسبب كلام ابن سينا في الشفاء وغيره ورسائل إخوان الصفا وكلام أبي حيان التوحيدي وأما المادة المعتزلية في كلامه فقليلة أو معدومة، وكلامه في الإحياء غالبه جيد لكن فيه مواد فاسدة مادة فلسفية ومادة كلامية ومادة من ترجمات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة) مجموع الفتاوى 6-54-55).
وعوداً على بدء:
متى ألف الغزالي كتابه: (إحياء علوم الدين) والجواب:
أنه قد قصد الحج سنة (488هـ) ورجع إلى دمشق سنة (489هـ) فمكث فيها عشر سنين آخذاً نفسه بالرياضة، والإحسان إلى الناس، وألف خلالها (الإحياء).
وتذكر التراجم أن زواجه كان في العشرين من عمره، وحدثنا في الكتاب عن حوادث رغم المعيشة فقال: (كانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعيشة تغبر في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة، لا يصفو لي الحال إلا في أوقات متفرقة).
ويجمع الدارسون، بين الغزالي والمفكر الفرنسي رينيه ديكارت فكل منهما راوده الشك وقد كتب عنه كثير من المستشرقين منهم كرادي فو، وبروكلين، وبول كراوس وهمري كروبان وغيرهم، وهذه الترجمة بعيدة كل البعد عن أهواء النفس، وتمجيد الذات فهي قطعة فنية بديعة.
وأخيراً: فالكتاب بديع رائق، والسيرة حلوة غضة تحكي سيرة هُمام، ومسيرة همّام، وهو دال على عبقريته النادرة، فهو كما نعته ووصفه الإمام ابن كثير - رحمهما الله - حيث قال: (كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم به).
ووصف ذكاءه الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) فقال: (... أعجوبة الزمان... صاحب التصانيف والذكاء المفرط).
وابن النجار فيقول: (كان شديد الذكاء، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة).
ومدحه تلميذه أبو العباس الاقليشي بقصيدة طويلة جاء فيها:
أبا حامد أنت المخصص بالمجد
وأنت الذي علمتنا سنن الرشد
وتوفي يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة، عام 505هـ -1111م. ودفن بقصبة طوس.
يقول أخوه أحمد: لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخوه وصلى، وقال: علي بالكفن فأخذه وقبله ووضعه بين عينيه وقال: سمعاً وطاعة للدخول على الملك ثم مدّ رجليه واستقبل فانتقل إلى رضوان الله تعالى قبل الإسفار. - رحمه الله وغفر له-.
مراجع المادة:
- أبو حامد الغزالي، سيرة الذات، ولغة التسامح في المنقذ من الضلال
- البيان - 10 أكتوبر - 2005م.
- الإيحاءات السردية والمعرفية في السيرة الذاتية كتاب «المنقذ من الضلال» لأبي حامد الغزالي أنموذجاً.
- سالمي محمد وفورار محمد بن الخضر.
- مجلة علوم اللغة العربية وآدابها 15-3-2020م.
- تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال
- الكتب الإسلامية 8-2003م.
- عرض كتاب الترجمة الشخصية للدكتور:
- شوقي ضيف
- شبكة الألوكة- محمد ثروت أبو الفضل 4-12-2009م - 6-4-1441هـ
** **
قراءة/ حنان بنت عبد العزيز آل سيف -بنت الأعشى-
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com