د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
إن أهم درس استخلص من العقود السبعة الماضية فيما يتعلق بالسياسة النقدية والاقتصادية الأمريكية أنه لم يكن هناك تطور خطي، ولم يحرز تقدماً كبيراً فيما يتعلق بكيفية إدارة الاقتصادات الحديثة من أجل استقرار الاقتصاد الكلي، خصوصاً فيما يخص النطاق النقدي مقابل النطاق المالي، الصعود والهبوط المتكرر للتوجهات الكنزية الذي توقع في 1936 أن استقرار الاقتصاد الكلي يتطلب كلاً من السياسة المالية والنقدية وإمكانية حل مشكلتين كبيرتين هما البطالة وتوزيع الدخل، بل إن معالجة مشكلة تركت الاقتصاد أكثر عرضة للخطر في بعض الجوانب، وإن كان لا يمكن صنع سياسة دون عيوب.
لا تنظر الولايات المتحدة باعتبارها أكبر اقتصاد عالمي يهيمن على نحو ربع الاقتصاد العالمي في أن العالم يمر بمرحلة ركود واستمرار التضخم، ولم تكتف بتشديد السياسات النقدية التي اتبعتها من أجل تدفق السيولة العالمية نحوها، حتى أن أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية حذرت وقالت إن علينا أن نحافظ على مكانة الاتحاد الأوروبي كوجهة استثمارية عالية الجودة.
تجاوزت الصين الولايات المتحدة للمرة الأولى في 2020 وصعدت للمركز الأول الذي احتلته أمريكا عقوداً حيث تراجعت الاستثمارات بحسب أونكتاد بنسبة 49 في المائة، وتراجع في أوروبا 71 في المائة، بينما وصل في بريطانيا وإيطاليا صفراً، وتوجه الشركات العالمية شرقاً نحو آسيا بدلاً من الغرب الولايات المتحدة وأوروبا.
ما يعني انتقال مركز الجاذبية الاقتصادي العالمي نحو آسيا، ويقصد بالاستثمار الأجنبي في الاقتصاد الحقيقي وليس في الأسهم والسندات والعملات، ففي عام 2016 كان التدفق الاستثماري في الولايات المتحدة عند 472 مليار دولا، بينما لم يزد في الصين على 134 مليار دولار، ولا يقتصر الاستثمار الأجنبي في الصين على الشركات الأمريكية بل والأوروبية، والألمانية، والفرنسية، واليابانية، والكورية، ولم تتأثر تلك الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي ولا الأمريكية بتلك العقوبات التجارية بل تأثرت الاستثمارات في الأسهم والأوراق المالية، ففي عام 2020 تدفق الاستثمار إلى الصين كأكبر دولة في العالم بنحو 133 مليار دولار بينما التدفق إلى الولايات المتحدة بلغ 93 مليار دولار، فيما كان نصيب السعودية في 2021 19.3 مليار دولار، وتضاعف إجمالي الاستثمار الأجنبي في السعودية بعد رؤية السعودية من 270 مليار دولار في 2015 إلى 610 مليارات دولار في 2021.
أصبحت الصين الشريك الأول لأوروبا في 2020 بلغ 586 مليار دولار أكبر بنحو 31 مليار دولار من الولايات المتحدة لأول مرة تميل الكفة للصين، ارتفع التبادل التجاري في 2021 إلى 800 مليار دولار، وقام خط قطارات الشحن بأكثر من 15 ألف رحلة شحن بينهما بزيادة 29 في المائة عن عام 2020، وزادت الواردات من الصين بنسبة 5.6 في المائة فيما زادت الصادرات الأوروبية للصين 2.2 في المائة إضافة إلى زيادة المبيعات الأوروبية من السيارات للأسواق الصينية.
أي أن الصين ستقلل حجم التبادل الدولي من التجارة بين أوروبا والولايات المتحدة البالغة 30 في المائة ونحو 40 في المائة من التجارة العالمية للخدمات، وتتجاوز الاستثمارات الأمريكية في أوروبا 3 أضعاف استثماراتها في آسيا، وتبلغ الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة 8 أضعاف الاستثمارات الأوروبية في الصين والهند، لذلك كانت أوروبا قلقة من اندلاع الصراع في تايوان، وفي ظل حرب أوكرانيا سيؤثر سلباً على أوروبا، وستأخذ الصين جانب روسيا وسيخفف من أثر العقوبات على روسيا، فيما ستتراجع علاقات أوروبا بالصين وروسيا، وهو أحد أهم أهداف الولايات المتحدة من تلك الصراعات.
لم تكتف الولايات المتحدة بتلك الصراعات من أجل تقليص الفجوة التجارية بينها وبين الصين التي ارتفعت من 310 مليارات دولار في 2020 إلى 506.4 مليارات دولار في 2021، وتراجعت تجارتها مع إفريقيا التي انخفضت من ذروتها في 2008 من 142 مليار دولار إلى 64 مليار دولار في 2021 وحلت محلها الصين، فلم تكتف الولايات المتحدة بتشديد السياسة النقدية التي ترفع نسب الاقتراض المحلي، فاتجهت إلى أساليب أخرى تقلل من أثر تشديد السياسة النقدية، بتقديم إدارة بايدن سلسلة من الإعانات الهائلة لخطة المناخ الجديدة، شملت كل الشركات العاملة على الأرض الأمريكية بمعونات تصل قيمتها إلى 420 مليار دولار، بحجة محاربة التغير المناخي، فكما سحبت السياسة النقدية سيولة عالمية، كذلك المعونة سحبت استثمارات أوروبية.
فخطة بايدن التي أعادت أمريكا إلى اتفاقية المناخ لا تختلف عن خطة ترمب من الانسحاب من اتفاقية المناخ، بل خطة بايدن أخطر لأنها تضعف المنافسة بين صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية والأوروبية، ما يضرب مسار هذه الصناعة في أوروبا، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف الطاقة بعد الأزمة في أوكرانيا.
بدأت في أوروبا دعوات لإنشاء صندوق سيادي أوروبي لدعم المشاريع الصناعية من أجل مواجهة المشروع الأمريكي بدعم ماكرون بعد لقائه بايدن، ما يعني انطلاق حرب تجارية بين الحلفاء.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقاً