عبدالرحمن الحبيب
«إنني أشعر بالذنب لأننا لم نفعل شيئاً تجاه الحفاظ على البيئة، وأبنائي يقولون لي نحن ندفع الثمن وكل هذا التلوث بسبب تقاعسكم، كنتم تعلمون أن أساليبكم في الزراعة مضرة بالبيئة ولم تفعلوا شيئاً». هذا ما قاله لي بروفيسور بيئة المحاصيل الزراعية في بريطانيا عندما كان مشرفاً على دراستي للدكتوراه قبل نحو ثلاثين عاماً. الآن ربما يُلقى اللوم على أبنائه من قبل جيل الشباب..
إذا كان من الطبيعي أن يكون هناك التزامٌ أخلاقيٌّ من جيل الآباء والأمهات تجاه الأجيال القادمة من أبناء وأحفاد، فماذا عن الأجيال الأبعد من ذلك؟.. وما هي مسؤولياتنا تجاه الأجيال القادمة البعيدة؟ أم أن هذه الأجيال لا تخصنا وهي مسؤولة عن نفسها ولها تطوراتها الخاصة وتقدمهم المتفوق علينا، فنحن بإلكاد مسؤولين عن الأزمات التي نواجهها الآن، فحين ارتفعت أسعار الطاقة، ألم يطالب كثيرون بزيادة إنتاج الطاقة الأحفورية حتى لو أثرت على البيئة، وكانوا قد طالبوا بخفضها عندما كانت الأسعار معتدلة؟ هل تغير المناخ والاحتباس الحراري، تلوث البيئة، انقراض الأنواع والتنوع البيولوجي..الخ هي مسؤوليتنا تجاه البشر الذين يعيشون في المستقبل البعيد؟ هل هؤلاء يستحقون الاهتمام وإن بدرجات أقل من البشر الأحياء الآن؟
هذه الأسئلة يحاول الإجابة عليها كتاب: ما ندين به للمستقبل «What We Owe the Future» الذي صدر مؤخراً (2022) لأستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد ويليام ماكاسكيل، متناولاً فلسفة «الإيثار الفعال» وفلسفة المدى الطويل (Longtermism) التي يعرّفها ماكاسكيل على أنها «الفكرة القائلة بأن التأثير الإيجابي على المستقبل على المدى الطويل هو أولوية أخلاقية رئيسية في عصرنا». وإذا كان لدينا التزامٌ أخلاقيٌّ تجاه البشر البعيدين عنا في المكان، ألا يكون لدينا نفس الالتزام تجاه البعيدين عنا في الزمان؟ نعم، هذا ما يرى ماكاسكيل أنه يستحق الاهتمام: «المسافة في الزمان مثل المسافة في المكان. الناس مهمون حتى لو كانوا يعيشون على بعد آلاف الأميال. وبالمثل، فهم مهمون حتى من سيعيشون بعد آلاف السنين من الآن».
فلسفة المدى الطويل التي تم تشكيلها من ماكاسكيل عام 2017 مستلهماً أعمالاً فلسفية سابقة، تحولت إلى ما يشبه حركة تتأسس على موقف أخلاقي يعطي الأولوية لتحسين المستقبل على المدى الطويل؛ من خلال مفهوم في الإيثار يعمل كحافز أساسي للجهود المبذولة لتقليل المخاطر الوجودية التي تتعرض لها البشرية. وقد تصل تلك الفلسفة لدرجة متطرفة في نظر كثيرين مثل قول الكاتبة المستقبلية سيغال صموئيل: «الناس في المستقبل مهمون لنا أخلاقياً تماماً مثل الناس على قيد الحياة اليوم..»لكن عموماً، يعتقد باحثو «المدى الطويل» أنه يمكننا تحسين المستقبل على المدى الطويل بطريقتين: «من خلال تجنب الكوارث الدائمة، وبالتالي ضمان بقاء الحضارة؛ أو عن طريق تغيير مسار الحضارة لجعلها أفضل ومستدامة.. وفي كل الأحوال فذلك مفيد للجميع في الحاضر والمستقبل. لذا يرى هؤلاء أن خياراتنا مصيرية فقد ينتج عنها عدد أقل من البشر أو أكثر أو حتى انقراض البشر بعد ألف عام.
بالمقابل، يرى آخرون أن تلك الاهتمامات نظرية مجردة تعتمد على تنبؤات احتمالية بتأثيرات أفعالنا على مدى آفاق زمنية بعيدة جداً، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً أو هو مستحيل، وقد تكون على حساب إعطاء الأهمية للوقت الحاضر من أزمات وفوضى معيشية واقتصادية وسياسية يعيشها العالم.. فنحن لا نتحمل المسؤولية تجاه الأشخاص الذين لم يوجدوا بعد. بالطبع هناك ما هو مفيد للوقت الحاضر وعلى المدى القصير والطويل مثل خفض الانبعاثات وتلوث الهواء فهو مكسب للجميع الحاضر والمستقبل البعيد، لكن هناك قضايا من غير المجدي إعطاؤها أولوية، كما يرى البعض..
أما ماكاسكيل فيرى أنه بغض النظر عن مسألة المفاضلات أو المقايضات بين الحاضر والمستقبل، فإن أحد المجالات التي يكون فيها الوقت مهماً بطرق مثيرة للاهتمام هو حول ما يسميه «تثبيت» القيم لكل زمان ومكان.. لكن هذا التثبيت يعني إغلاق النقاش والتساؤل حول القضايا الأخلاقية، ولا يترك مجالاً للمراجعة الفكرية.
عن كتاب «ما ندين به للمستقبل» يرى بيتر جودفري سميث أستاذ التاريخ وفلسفة العلوم بجامعة سيدني، أنه كتاب جيد من نواحٍ كثيرة، لكنه يستدرك موضحاً: لنفترض أن شخصاً ما قال إن المستقبل غير معروف (تخيل كيف سيبدو عام 2022 لشخص ما حتى قبل قرن من الزمان) وبالتالي ليس هناك الكثير لنكسبه من زيادة انتباهنا عن المدى القريب والمتوسط (مقياس العقود، مثلاً). بينما شخص آخر يصر على أن أفعالنا الحالية سيكون لها آثار طويلة المدى هائلة لدرجة أنه يجب علينا ببساطة أن نحاول أخذها بعين الاعتبار. يقول سميث: أريد أن أعرف ما هي القرارات التي ستتخذ بشكل مختلف من قبل هذين الشخصين، وأي نوع من المفاضلة قد تكون بين مخاوفنا المألوفة وتلك الجديدة؟ هنا نصل إلى مفاجأة - بالنسبة لي، على الأقل - في كتاب ماكاسكيل لا تبدو الاختلافات واضحة..
عموماً، الكتاب يقدم تحليلاً شاملاً للأخطار المعاصرة بتقاطعاتها التكنولوجية والعلمية والسياسية، مع مناقشة مستقبل البشرية المحتمل بطريقة تثير القلق والتحفيز معاً.