محمد سليمان العنقري
نشاط الأعمال كما هو معروف يتأثر بعوامل عدة منها الاقتصادي بدرجة رئيسة، بالإضافة لعوامل جيوسياسية أو بيئية ولذلك فإن توجه الأسواق يبقى قائماً على هذا الأساس وخلال فترة رواج الأعمال أو ركودها تمتلئ الساحة بالكثير من الأراء فلا أحد فعلياً يمكن له توقع ما سيحدث بسهولة فالمتغيرات كثيرة ومتسارعة وهناك تدخلات من الحكومات إما لكبح التضخم إذا ارتفعت أسعار السلع والأصول والخدمات عن الحد المسموح وهو ما يؤدي بنهاية المطاف للتأثير في النشاط الاقتصادي بتباطئه أو أن يكون التدخل بسياسات هدفها عودة النمو للاقتصاد وللقطاعات الفاعلة فيه، فلكل توجه تأثيره لكن تبقى الآراء من المختصين سواء كانوا مؤسسات مالية أو مراكز استشارات أو أفراد خبراء بمجالاتهم هي الأكثر مثاراً للجدل بين المتعاملين ما بين من يؤيد أو بعارض وجهة نظر طرف عن آخر فلكل فرد دوافعه وأسبابه بانحيازه لرأي دون آخر.
فالجدال الاقتصادي كان وما زال وسيبقى هو ملح الأسواق ومصدر الحيوية فيها لكن التعصب لرأي وانتقاد من يعارضه بقسوة واتهامه بالمبالغة سواء كان متفائلاً أو متشائماً يجعل من الجدال عقيماً وبلا فائدة فالأصل أن يبقى هذا الاختلاف مهنياً ومنطقياً وقائماً على الموضوعية بالطرح وعدم الذهاب لمنطق الاتهامات سواء بالنظرة السوداوية القاتمة (الإرجاف) أو بث التفاؤل المفرط الذي يتهم صاحبه (بالتضليل) فالنقاش والخلاف بهذه الحالة يتحول إلى اعتبارات شخصية وليس موضوعية بما لا يضيف قيمة لمعلومات المتعاملين فبالنهاية لن تتحرك الأسعار للأصول أو حجم النشاط إلا وفق العوامل الأساسية ذات التأثير المتوسط والطويل الأمد أما الأثر قصير الأمد فيتلاشى سريعاً حتى لو كان الرأي أو التصريح من جهة يمكن اعتبارها صانع سوق أو مستثمراً بحجم كبير فإن أثر حديثه سيتبخر سريعاً وسيعود الاتحاه وفق المعطيات الأساسية وعلى سبيل المثال تفاعلت الساحة العقارية مع إطلاق عاملين بالقطاع آراء حول توجهات الأسعار لمخططات سكنية معينة وهي بالنهاية وجهة نظر من ممارس للنشاط إلا أن هناك من رفضها بشدة خوفاً من أن يتأثر سوق العقار وبالتالي يضعف حجم تجارته ونشاطه وهناك من أعجب بها كونها تحاكي مصلحته بانخفاض أسعار الأراضي والعقار السكني عموماً أي أن من أيد وعارض انطلقا من منطق واحد المصلحة المطلقة ولكن بنهاية المطاف لن تتحرك الأسعار إلا بما يؤثر بها من عوامل فاتجاه السياسة النقدية للتشدد كرفع أسعار الفائدة والذي يتسبب باتجاهات حركة السيولة وحجم المعروض منها سينعكس تدريجياً على أي نشاط اقتصادي فتكلفة المال إذا ارتفعت ستقلل من الضخ المالي بأي نشاط وسيظهر التأثير عليه تباعاً بداية من الأعمال المضاربية التي سينخفض حجمها وصولاً للتأثير على توجهات المستثمرين الذين سيترقبون الانعكاسات على القطاع وحجم الطلب والنشاط فيه ومتى يمكن أن تتحول تلك السياسة المرنة وذات الأمر ينطبق على قياس توجهات السياسة المالية وكذلك الاقتصادية بالإضافة لأي عوامل أخرى فلم تذكر المؤلفات أو النظريات بعالم الاقتصاد أو الأعمال أن للآراء تأثيرها المستدام بما يفوق أثر السياسات النقدية أو المالية أو العوامل الأخرى غير الاقتصادية فما وضع من حلول للتضخم أو الركود أو استعادة النمو وكذلك زيادته واستدامته كان وفق عوامل ليس من بينها رأي فرد أو مؤسسة من المتخصصين بالأسواق أو الاقتصاد
فمن المهم أن يعلم كل متعامل بأي نشاط اقتصادي أن الآراء تبقى محاولات واجتهادات من مختص لتشخيص المرحلة وفق رؤيته وخبرته التي قد تصيب لحد ما أو تخطئ فالرأي لا يجب أن يكون هو ما يصنع قرارك بل مجرد مساعد للاستئناس به بينما القرار يجب أن يبنى على معرفتك بالعوامل الأساسية فالقاعدة تقول «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير» ولذلك فإن الجدال الذي يصل لمرحلة التعصب لن يضيف أي فائدة للمتلقي كما أنه لن يغير شيئاً بالتوجهات القادمة لأي نشاط فلا يوجد استثناء بحركة أي قطاع عما يؤثر به من أساسيات مهما بلغت أهميته فالفرق الوحيد هو سرعة الاستجابة أي أن هناك قطاعات لا تظهر أثر السياسات المتبعة عليها إلا بعد وقت أطول من قطاعات أو أنشطة أخرى فتحرك الأسعار وحجم النشاط ليس متشابهاً بكل القطاعات وهو ما يجعل الكثير من متابعي تلك التحليلات في حيرة باختيار أي الآراء هي الأقرب للواقع فالقول بأن أسعار الأراضي ستهبط لا يعني أنها من الغد سيظهر هذا الاتجاه عليها أو أن ذلك سيشمل كل الأراضي وبكل المدن بوقت واحد والعكس صحيح أي أن الرأي بأن الارتفاع هو الاتجاه القادم لا يعني أنه سيبدأ فوراً وينطبق ذلك على أي نشاط أو خدمة أو سلعة فالاتجاه لن يحدده رأي بل يجب أن يكون هناك أساسيات تدعم الرأي وبأدلة وبراهين واضحة وترصد لفترات زمنية فالركود مثلاً لا يتم الاعتراف به إلا إذا كان نتيجة لقراءات لفصلين متتالين أي ستة شهور وهو ما يوضح أن قراءة الاتجاهات ليست بالأمر البسيط إضافة إلى أن الحكومات تحرص على حماية الاقتصاد والدفع بكل ما يسهم بحمايته من التضخم وكذلك استدامة النمو ولذلك فإن هذه التداخلات المعقدة ما بين حركة الأسواق ونشاط القطاعات والقرارات الرسمية وكذلك العوامل الخارجية المؤثرة بالاقتصاد العالمي جميعها تجعل من قرار المستثمر صعباً ويحتاج لوضوح كثير من التفاصيل وتفسير لأثر كل عامل خصوصا على المدى المتوسط والطويل.
اختلاف الرأي ظاهرة صحية لكن تحولها لجدال وتعصب يخرجها عن سياقها فلكل شخص رأيه وهذا حقه لكن ليس لأي طرف أن يهاجم الآخر من باب الدفاع عن مسلحته أو ميوله فهذا يدل على عدم ثقة بقدرتك العملية والمهنية أو ضعف بالخبرات لأن المستثمرين وحتى المضاربين ذوي الخبرة العالية لا تؤثر في قراراتهم إلا العوامل الأساسية وأي آراء لا تستند لذلك بشرح تفصيلي وعميق لا يمكن أن يأخذوا بها كما أنهم لا ينتظرون أي رأي مجاني بل لديهم تعاقداتهم مع خبراء ومؤسسات مالية تزودهم بكل جديد في الساحة الاقتصادية ويقومون هم بتحليلها وقياس أثرها لكي تكون قراراتهم متماشية مع التوجهات القادمة فهم مستثمرون ومتعاملون طويلو الأمد بالأسواق ويعرفون تماماً أن السوق أكبر من الجميع لأنها لا تتحرك وفق عامل واحد بل مجموعة كبيرة من العوامل التي هي من يقود اتجاه الأسواق.