حمّاد بن حامد السالمي
* في هذا الجزء غير المنتظر من مقالي السابق ذي الجزءين: (الصين والعرب.. جسرٌ من الشعر.. أم جسرٌ من الذهب..؟) والمنشور بهذه الصحيفة الأول: (https://www.al-jazirah.com/2022/20221218/ar2.htm)،
والثاني: (https://www.al-jazirah.com/2022/20221225/ar2.ht)،
أحاول هنا أن أستدرك ما فاتني؛ لأكمل المقاربة في صورة العلاقات التاريخية والسياسية والاقتصادية التي تجمع الصين ببلاد العرب والمسلمين في القديم والحديث، وهي مقاربة آمل أن تروق للقراء الكرام.
* إن أول ما يتبادر إلى ذهنيتنا ونحن نذكر الصين؛ سورها العظيم الذي يجسد زمن العباقرة. بني السور الحجري شمالي الصين في القرن الثاني قبل الميلاد، ويمتد على مساحة تقرب من (50 ألف كم) بطول حوالي (6.400 كم)، يزوره حوالي أربعة عشر مليون سائح سنويًّا. هو أطول بناء في التاريخ على الإطلاق، ويجسد حضارة علمية وعمرانية وعسكرية فذة.
* ثم لا ننسى أن الصين التي تعد في مقدمة الدول الصناعية؛ وأكبر دولة في العالم في عدد السكان- (مليار ونصف إنسان)- هي التي ظهرت فيها أول صحيفة مكتوبة في العالم عام (911 قبل الميلاد). الصحيفة اسمها (كين بان)، وهي الصحيفة الرسمية، ويقال إنها ما زالت تصدر حتى اليوم، وتنشر ثلاث نشرات يوميًّا، صباحاً باللون الأصفر، وظهراً باللون الأبيض، ومساءً باللون الأحمر. في حين لم تعرف أوروبا الصحافة المكتوبة إلا عام 58 قبل الميلاد، مع صدور أول صحيفة فيها في عهد الإمبراطور (يوليوس قيصر) تسمى: الأعمال اليومية (Acta - Durna).
* وإذا أتينا إلى عالمنا العربي الذي يوثق اليوم علاقاته مع الصين الجديدة؛ فإن صحيفة (الوقائع) المصريّة؛ هي أوّل صحيفة صَدَرتْ في العالم العربيّ عام 1828م. بعد ذلك أصدر خليل الخوري عام 1858م صحيفة (حديقة الأخبار- جورنال) في بيروت. كما أن أول صحيفة صدرت في الحجاز؛ هي صحيفة (الفلاح) في مكة المكرمة عام 1920م، ثم صحيفة (أم القرى) في منطلق العهد السعودي الميمون.
* من الواضح؛ أن الصين كانت سابقة لغيرها في هذا العالم في كافة المجالات الإنسانية والحضارية، وامتدت بعلومها إلى أمصار عدة، ومنها الأمصار الإسلامية المتاخمة لها والبعيدة كذلك مثل: العراق، والجزيرة العربية، والشام، وصولًا إلى أوروبا، فمنذ أن انطلقت القوافل التجارية ما بين أرض العرب بالجزيرة العربية والصين عبر طريق الحرير الشهير، والتبادل العلمي والمعرفي لم ينقطع، إذ أخذ الصينيون من العرب شتى العلوم في الرياضيات والجبر والفلك والضوء وانكساراته، وكذلك الفن بشتى نواحيه، خصوصًا ما يتعلق ببعض الآلات الموسيقية، كالعود والناي الشهيرين لدى العرب. في حين صدّرت الأمة الصينية للعرب الطب والتنجيم، وبعض المعارف والفنون الأخرى. ومن دلائل عناية العرب بالعلوم وطلبها حتى لو بَعُد مزارها؛ ووجود التبادل المعرفي بينهم وبين الصين؛ فإنهم قالوا في أمثالهم الشهيرة: (اطلبوا العلم ولو في الصين)، الذي رقاه البعض ليكون حديثًا مرويًّا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء قال: حديث ضعيف وغير صحيح. وفي هذا؛ دليل آخر على التبادل المعرفي بين العرب والصين، حتى قبل ظهور الإسلام، فهذا (الحكم بن أبي الصلت)- شاعر جاهلي وأحد رؤساء ثقيف- يقول:
كاغِدُنا.. يشبه حالاتِنا
في كل معنى ويحاكيها
* يُذكر (الكاغد).. الذي هو الورق وما يتعلق بالكتابة عليه في الغالب، وهو على ما يبدو اختراع الصين، التي عرفت الصحافة المكتوبة في القرن التاسع والعاشر قبل الميلاد، وعرفه العرب عبر فارس، لهذا ينسبه بعضهم إلى فارس، وباسمه هذا ظل باقيًا في عديد من الدول العربية، وخاصة الجزائر والمغرب فيقولون: (الكاغط) تخفيفًا، ويبدو أن لـ(الكاغد)؛ أصلًا في اللغة العربية. كذلك نجد أن كلمة (Carte) الفرنسية، و(card) الإنجليزية؛ مشتقة من كلمة (كاغد) العربية. وامتدادًا لهذه العلاقات التاريخية الموغلة في القدم بين الصين والعرب؛ تأتي قمم الرياض الثلاث قبل ثلاثة أسابيع، وتُبرز حرص القيادة الصينية المعاصرة على توثيق الصلات على كافة الصُّعد، كما برزت عناية المملكة العربية السعودية المبكرة بهذا الشأن، من ابتعاث الطلبة السعوديين إلى الجامعات الصينية، ونشر اللغة العربية وعلومها في عموم الصين، عن طريق برامج (مركز الملك عبدالله الدولي للغة العربية)، وكذلك (مجمع الملك سلمان بن عبد العزيز للغة العربية) لاحقًا. و(مكتبة الملك عبد العزيز العامة)، التي افتتحت فرعًا لها بالصين.
* دعونا نقف مع الشاعر التونسي (نور الدين صمُّود)، الذي وقف على سور الصين العظيم العام 2000م، وصوّر في شعره معالم وأبعاد هذا المنجز الحضاري لأمة الصين. قال:
لهاثُ يَهُزُّ الصدورْ
ويبعث فيها لهيبَ اللظَى الحارقِ
وخفْقُ يرجُّ القلوبْ
فتغدو ترفرف كالنَّسر من حالقِ
وتُشرفُ من فوق طَوْدٍ يُسامِقُ طودَا
يتوجها السُّورُ، يحرُسُها فى السهولْ
ويحرسها فى الجبالْ
وتنزل وهْداً يسابقُ وهْدا
فأشعرُ بالرَّهبَةِ الآسِرهْ
وتملكنى الفزعةُ القاهرةْ
وتَجذِبنى القمة النافرةْ
فتوشكُ تَنْبَتُّ فى الصدر أنفاسيَهْ
إذا ما وقفتُ على الذَّروةِ العاليةْ
وتأخذنى رهبةُ فى الصعودْ
وتغمرنى رهبةُ فى النزولْ
وتجذبنى الوهْدةُ النائيةْ
وينداحُ فى الأفْقِ هذا الفضاءُ العريضْ
يُغَطِّى رؤوسَ الجبالْ
ويَصْغُرُ تحت عيونى الحضيضْ
ويُصبحُ صعب المنالْ
********
حسدتُ النسورَ التى حلّقتْ فى السماءْ
وصانتْ عنانَ الفضاءْ
وجابت أقاصي الحدودْ
لِتَشْهَدَ سُورًا تَمَدّدَ تِنّينُه حارسًا للبلادْ
وأرهبَ فى غابرِ الدهرِ أقسَى القلوبْ
وأيقظ فى النفس أروعَ حِسّ
وأرهبنى فى الصعودْ
وقد رُمْتُ نَيَلَ الذُّرَى
فأحسستُ أن الهواء بصدرى احتبسْ
وأرهبنى فى النزولْ
إذا رمتُ، فى السفحِ، نَيْلَ الثَّرَى
فكاد يُبَتُّ بصدري النفسْ
وأوشكت أبصر، من حوله، في قديم الزمانْ
ألوفَ العبيدْ
جياعًا حفاةً عراةْ
بهذا المكانْ
تسخِّرهم صفعاتُ السياطْ
فتخفُقُ تلك القلوبْ
ويوشك يُقْطَعُ منها النِّياطْ
وأوشِكُ أسمع منهم شَجِىَّ العويلْ
وأُوشكُ أسمع رَجْعَ الصدَى
يُصَعِّدُهُ السّفْحُ نحْو الذُّرَى
ويمتد فوق السهولْ
********
تأوُّهُهُمْ عند دفْعِ الصخورْ
كوقع المعاولِ يُؤْلِمُ سمعي
وزفرتهمْ عند رفْعِ البناءْ
تظل، من العين، تعصر دمي
وتغسلنى بصبيبِ العَرقْ
وفى الليل تملأُ سمعي
بأشجى نحيبْ
وتسكبُ في المقلتيْن سيولَ الأرقْ
*******
وعُدتُ إلى السُّور كيما أراهْ
بعين خيالي
فأبصرتُه للمعاناةِ، رمزًا فريدْ
وخُيّلَ لي أنني قد كتبتُ قصيدْ
يهُزُّ المشاعرَ عذبًا جديدْ
وأوشِكُ أسمعُ للحرف، حين يُخَطُّ، صداهْ
فإن المعاناةَ مثل اعتلاءِ الجبالِ