هناك يوم عالمي حددته الأمم المتحدة للاحتفاء باللغة العربية، ويصادف 18كانون الأول/ديسمبر من كل عام، ويسلط هذا اليوم الضوء على تراث اللغة ومساهمتها الهائلة للإنسانية، كما يمثل اليوم أيضاً فرصة للنظر فى حالة ومستقبل إحدى اللغات الأكثر انتشاراً فى جميع أنحاء العالم، ويعطي كل يوم دولي فرصة للعديد من الجهات الفاعلة لتنظيم الأنشطة المتعلقة بموضوع اليوم، وإن موضوع عام 2022م يكتسي أهمية بالغة في كنف المجتمعات التي تتعاظم فيها العولمة والرقمنة والتعددية اللغوية إذ يسلم بالطبيعة المتغيرة للعالم والحاجة الماسة لتعزيز الحوار بين الأمم والشعوب.
ولئن كانت الأمم المتحدة قد اختصت اللغة العربية بيوم عالمي - قبل نصف قرن - فقد سبق الإسلام جميع الأمم منذ أكثر من ألف عام إلى تكريمها وحفظها حيث اختار الله عز وجل هذه اللغة بأن تكون هي لغة خالدة ومحفوظة بحفظ القرآن الكريم إلى قيام الساعة، إذ يقول « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ»، ويقول كار بركلمان الألماني «بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا».
السياق التاريخي لليوم العالمي وأهدافه
بدأ الاهتمام العالمي الخاص باللغة العربية في منتصف القرن الماضي وبالتحديد في العام 1948م في الوقت الذي قررت فيه منظمة اليونسكو أن تعتمد اللغة العربية بعد اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية لتأتي في الترتيب الثالث بين اللغات الرسمية، وفي عام 1960 م تم الاعتراف أن اللغة العربية لها دور مؤثر وبارز في أن تجعل المنشورات على المستوى العالمي مؤثرة.
وفي سنة 1974 م كان أول مؤتمر تم انعقاده في منظمة اليونيسكو والخاص باللغة العربية جاء ذلك بناءً على بعض المقترحات والتي تبنتها الكثير من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط وانتهى المؤتمر على وقع الاعتراف باللغة العربية كواحدة من اللغات العالمية والتي سوف يتم استخدامها في المؤتمرات الدولية.
ويسعى اليوم العالمي للغة العربية إلى إبراز الإسهام المعرفي والفكري والعلمي لهذه اللغة وأعلامها في مختلف مناحي المعرفة البشرية عبر التاريخ، فالحضارة العربية الإسلامية لها إسهامات مشهودة في مختلف مناحي العلوم والمعرفة والآداب والفنون، ويعود إليها الفضل الأكبر في النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية التي كرّست قيادة الغرب للعالم منذ أواخر القرون الوسطى كما يرمي اليوم العالمي للغة العربية إلى التأكيد على مركزية هذه اللغة التي تعد من أوسع اللغات السامية انتشاراً، فعدد المتحدثين بها يتجاوز الـ 420 مليون نسمة في البلاد العربية، كما أنها اللغة المعتمدة لدى عدد من الكنائس المسيحية في المشرق، وكتب بها جزء مهم من التراث الثقافي والديني اليهودي.
ثيمة اليوم العالمي للغة العربية
يروج اليوم العالمي للغة العربية لموضوع جديد كل عام، ويتم تسليط الضوء على شق معين من المواضيع المرتبطة باللغة العربية، ويختلف تماماً عن العام الذي يسبقه، وكانت ثيمة عام 2021 هو «اللغة العربية والتواصل الحضاري» ويدعونا الموضوع لهذا العام تحت شعار «مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية»، وتعتبرالعربية ركيزة من ركائز الحضارة الإنسانية، وهي لغة الابتكار والاستكشاف في مجالات العلوم والطب والفلك والرياضيات والفلسفة والتاريخ على مر العصور، وقد كانت -وما تزال- جسراً للمعرفة عبر الزمان والمكان، وأسهمت عبر القرون -مع بقية ثقافات العالم- في تراكم إرث الإنسانية.
مكانة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية
«إن اللغة بدون منازع تعد أعظم الآلات التي يستخدمها الإنسان في تحقيق التعاون والاتصال بأبناء جنسه، وبسبب ظهور اللغة المنطوقة قبل اللغة المكتوبة بدأ تاريخ ذلك الإنسان وبدأت معه الثقافة الإنسانية» (علي أحمد مدكور، تدريس فنون اللغة العربية، ص90 ) وجدير بالإشارة أن الحضارة الإسلامية کان لها دورها الفعال في التواصل بين الشعوب وهذا الدور لم ينقطع على مر الزمن ولكنه في العصر الوسيط کان أکثر وأعرض وأعمق، وذلك بفضل ما توصلت إليه الحضارة الإسلامية من أسباب التقدم والرقي وحتى العصر الحديث ما زالت هناك آثار لتلك الحضارة، ولعل أجلى ما تتضح عليه صورة ذلك الأثر هو اللغة العربية.
هناك علاقة وطيدة بين اللغة العربية وبين الدين الإسلامي، حيث كلما كان الإنسان متقناً ومتفوقاً في اللغة العربية يمكن أن يكون موظباً على ممارسة الشعائر الدينية بدون حرج، لكن رغم كل هذه المعطيات المذهلة والتي يمكن تسجيلها في خانة محاسنها، هناك إشكاليات معقدة تعرفها اللغة العربية في مواطن عدة من طرف حكومات عربية، علاوة على تصرفات غير سوية من مواطنين عاديين أيضاً.
في كثير من الدول العربية مثلاً، لا تلقى اللغة العربية الاهتمام الكبير، وتجعل فرص المساهمة في دينامية الرقي والتشجيع ضعيفة، بل هناك تنازلات في مجالات عدة تقوض من فرص انتشار اللغة العربية وتكبحها في عقر دارها، كيف ذلك؟ الإعلام مثلاً في بعض الدول العربية يعتمد على اللغات الأجنبية أكثر من اللغة العربية، وكذلك في التعليم وبعض القطاعات، وهذه الأمور مجتمعة أدت إلى اإنتاج طبقة مثقفة تتقن اللغة الأجنبية أكثر من اللغة الرسمية، وهو الأمر الذي أحدث رجة على مستوى الشخصية والهوية والتبعية الثقافية.
أسماء عربية مثل - عائشة وفاطمة وعزيزة والسعدية - أصبحت تتراجع رويداً رويداً في المجتمعات العربية، وتحل محلها أسماء - نسرين ونانسي ومايا ونتاليا وما إليه..وهو ما يشرح الابتعاد عن الهوية العربية والجري وراء التبعية الثقافية والتي لم يسلم من مخالبها حتى المواطن العادي، هذا الانسلاخ عن الهوية يجرنا إلى الحديث عن نمط العيش لدى الإنسان العربي بشكل عام والذي يساهم فيه الإعلام المرئي وانتشار الثقافة بلغة أجنبية بما فيه التعليم.
وعلى ذكر التعليم هناك أمثلة كثيرة تجسد وتبرهن مقولة الغلبة تفرض وجودها في جميع الميادين والمجلات على مر العصور، أيام كانت اللغة العربية في أوجها أثرت في سيبويه الفارسي فسطع نجمه حتى أصبح إماماً في الصرف والنحو لقواعد اللغة العربية، كما ظهر البخاري من أزباكستان ودخل التاريخ من بابه الواسع بكتابه صحيح البخاري.
اليوم انقلبت الآية فهناك كتاب من أصول عربية تجيد الكتابة بالإنجليزية والفرنسية وما إليه،أكثر مما تجيد الكتابة بالعربية، هناك من يعلل الموقف بحجة أن هؤلاء المثقفين يعتبرون قنطرة وصلة وصل بين الثقافات لكن فريقاً آخر يصنف ذلك حصيلة حاصل للتبعية الثقافية والتي هي جزء من رواسب الاستعمار.
وقد أبدعت اللغة العربية بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعامية، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر الهندسة والشعر والفلسفة والغناء، وتتيح اللغة العربية الدخول إلى عالم زاخر بالتنوع بجميع أشكاله وصوره، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمعتقدات، ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبيّن الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزاً إلى إنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة، وأتاحت اللغة العربية إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الإفريقي.
أهمية اللغة العربية بين اللغات العالمية
وكما هو واضح أن للغة العربية أهمية كبيرة ومكانة مرموقة بين اللغات العالمية، وتعتبر من أقدم اللغات الحية على وجه الأرض، وعلى اختلاف بين الباحثين حول عمر هذه اللغة لا نجد شكاً في أن العربية التي نستخدمها اليوم أمضت ما يزيد على ألف وستمائة سنة، وقد تكفل الله سبحانه و تعالى بحفظ هذه اللغة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إذ يقول تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»، و منذ عصور الإسلام الأولى انتشرت العربية في معظم أرجاء المعمورة وبلغت ما بلغه الإسلام وارتبطت بحياة المسلمين فأصبحت لغة العلم والأدب والسياسة والحضارة فضلاً عن كونها لغة الدين والعبادة، لقد استطاعت اللغة العربية أن تستوعب الحضارات المختلفة للعربية والفارسية واليونانية والهندية المعاصرة لها في ذلك الوقت وأن تجعل منها حضارة واحدة، عالمية المنزع، إنسانية الرؤية، وذلك لأول مرّة في التاريخ، ففي ظل القرآن الكريم أصبحت اللغة العربية لغة عالمية واللغة الأم لبلاد كثيرة.
وجدير بالذكر أن أهمية اللغة العربية تنبع من نواحٍ عدّة؛ أهمها: ارتباطها الوثيق بالدين الإسلامي والقرآن الكريم، فقد اصطفى الله هذه اللغة من بين لغات العالم لتكون لغة كتابه العظيم ولتنزل بها الرسالة الخاتمة «إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون»، كما تتجلى أهمية العربية في أنها المفتاح إلى الثقافة الإسلامية والعربية، ذلك أنها تتيح لمتعلمها الاطلاع على كم حضاري وفكري لأمّة تربعت على عرش الدنيا عدّة قرون وخلفت إرثاً حضارياً ضخماً في مختلف الفنون و شتى العلوم، وتنبع أهمية العربية في أنها من أقوى الروابط والصلات بين المسلمين ذلك أن اللغة من أهم مقومات الوحدة بين المجتمعات.
فالعربية لم تعد لغة خاصة بالعرب وحدهم، بل أضحت لغة عالمية يطلبها ملايين المسلمين في العالم اليوم لارتباطها بدينهم وثقافتهم الإسلامية، والأمر الذي جعلها تنتشر انتشاراً واسعاً بين العرب وبالتحديد العرب المسلمين بالإضافة إلى أن الأوروبيين أصبحوا يميلون إلى تعلم اللغة العربية وخصائصها كما أنهم يرغبون في معرفة عدد حروفها والكلمات الدالة عليها والسبب في ذلك يرجع إلى أن اللغة العربية تساهم في نهوض الكثير من الحضارات، الخصوصية اللغوية التي تتمتع بها اللغة العربية تجعلها الأميز بين اللغات الأجنبية الأخرى، جميع اللغات الأجنبية في العالم تستخدم في كلماتها بعض الكلمات من أصل عربي خاص باللغة العربية الأمر الذي يساهم في تعزيز سبل التعاون المشترك بين اللغة العربية واللغات الأخرى.
الخاتمة
تعتبر اللغة العربية بمثابة الوعاء الذي يحوي التراث والتاريخ كما أنها تعد من أهم اللغات على الإطلاق لكونها لغة التواصل بين الأفراد وتبنى عليها الحضارات والثقافات، و أقول بكل صراحة ووضوح، إن اللغة العربية تحتل الترتيب الخامس بين اللغات الأساسية في العالم، وهذا صحيح ولكن تحديات مختلفة أثرّت على مكانة لغتنا، وتنوعت آراء الباحثين والمهتمين حول أسباب تراجع مكانتها بين أبناء الجيل الجديد، فهناك من يعتقد أنها أزمة لغة لا تستطيع مواكبة المستجدات العالمية، وهناك من يجزم أنها لا هذا ولا ذاك، بل هي أزمة جيل انسلخ عن ثقافته لصالح ثقافات أخرى، فعلينا أن نتمسك بهويتنا وبالضاد، لغتنا العربية سيدة اللغات، فيها من الجمال والإبداع ما يجعلها بحر البيان والبلاغة، يكفيها فخرا وشرفا أنها وسعت كتاب الله عز وجل لفظا وغاية ، هي بحق منارة الإبداع والتألق والجمال، وأختتم مقالي هذا بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد
** **
د. علاء الدين. ك. أم - محاضر في قسم الماجستير والبحوث للغة العربية، كلية السنية العربية كاليكوت - الهند