حامد أحمد الشريف
يخطئ من يعتقد أنّ التقليد شرٌّ محض، فيأنف منه ولا يتّخذه سبيلًا للتعلُّم، بل لعلّي أقول إنّ أمثال هؤلاء المتعالين على التقليد قد لا يصلون للإبداع مطلقًا، وقد يعانون كثيرًا قبل إتقانهم الحدّ الأدنى من المهارة المطلوبة، ذلك أنّ التقليد مندوب ومرحَّب به ويُعَدّ خطوتَنا الأولى نحو التميُّز الحقيقي، إذ يمكننا من خلاله قفز مراحل إلى الأمام، والوصول إلى الإتقان المطلوب في مدّة وجيزة وبأيسر السبل، وتَهْيئِتنا للانتقال إلى مرحلة بناء الشخصيّة الإبداعيّة. ولكن، تكمن الإشكاليّة في اتّخاذنا من التقليد نهجًا مستمرًّا، وعدم خروجنا من دائرته، فيكون بذلك قاتلًا للإبداع، يُفقدنا هويّتنا فنصبح نسخًا مكرَّرة لا قيمة لها، كمن ينطلق في تعلُّم تقاسيم آلة العود من مقدّمة معزوفة الربيع الشهيرة للموسيقار الكبير فريد الأطرش -يرحمه الله- فتكون خطوته هذه رائعة إن كانت مرحلة يصل من خلالها إلى منهجيّته الأصيلة في العزف التي يتفرّد بها وتُظهر إتقانه وتمكُّنه، وتصبح وبالًا عليه إن لم يستطع الخروج عمّا تعلّمه، فيصبح مقلّدًا لا يُلتفت إليه طالما الأصل موجود ويغني عن بدائله، وغاية ما يقال فيه إنّه برع في تقليد تقاسيم فريد الأطرش، ولكن لن تكون له قيمة إبداعيّة مطلقًا.
بينما نجد أنّ الأسماء الخالدة كأحمد فتحي وعبادي الجوهر ونصير شمه وإسلام القصبجي ودريع الهاجري وغيرهم من عازفي آلة العود المهَرَة، بنوا مجدَهم الموسيقيّ بالخط المستقلّ الذي اختطّوه لأنفسهم وعُرفوا من خلاله، ولم يُنسبوا إلى غيرهم رغم أنّهم في بداياتهم كانوا مقلّدين.
ما يعنينا من ذلك كلّه هو النفاذ إلى موضوع الأدب والكتابة السرديّة الإبداعيّة، فثمّة من فُتنوا بالروايات والقصّص الغربيّة، وسعوا إلى تقليدها، وكان في ذلك الخير، كون الغربيّين سبقونا في هذا المجال؛ والمنطق يقضي بأن نبدأ من حيث انتهوا، حتى إذا ما أتقنّا فعلهم وظّفناه لخلق شخصيّتنا المتفرّدة، وانطلقنا في عالم السرد الجميل الذي يشير إلينا لا إليهم. لكن، لا يمكننا التحدّث عن الاتقان طالما لم نخلع عباءتهم ونتخلّص من كلّ ما يشير إليهم، كأن نسرد حكايات غربيّة بالكامل لا علاقة لها ببيئة الكاتب أو ثقافته أو متعلّقاته الدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، فيلتبس الأمر على من يقرأها، إذ يظنّها غربيّة رغم أنّ كاتبها عربي. إنّ هذا النوع من الكتابات يخسر قيمته في الميزان الإبداعيّ مهما كانت درجة إتقانه وجماله والتزامه بكافّة المعايير السرديّة؛ وإذا ما علمنا أنّ كلّ حكاية نقرأها، بلا استثناء، إنّما هي نتيجة تجارب وخبرات شخصيّة وأحداث حقيقيّة عاشها الكاتب وفلسفها، وعرضها بطريقته، أو نظر إليها من زاويته الإبداعيّة، أو أنّها فكرة خلّاقة بناها من تراكمات أحداث بسيطة اختزنها عقله الباطن وقام بتجميعها لاحقًا بطريقته ليخلق منها فكرة مبتكرة أصيلة، فإنّنا نرفض تمامًا ما سيأتي به كلّ مقلّد رغم إقرارنا بجماله.
خلاصة القول هنا إنّ الكاتب، في أجناس الأدب التخيّلي وليس التقريري، ينطلق من خبراته الحياتيّة المباشرة وليس من خبراته القرائيّة غير المباشرة، فلا يمكن القبول بحكاية تشير لافتتان قاصّ بكاتب كبير، والإمعان في تقليده وارتداء ثوبه الذي لا ينسجم مع بيئته -كما يفعل بعض عشّاق الأدب الغربي- وغاية ما هنالك استخدامه لأسلوبهم وطريقتهم ومناهجهم الإبداعيّة في صياغة قصّة ترتبط بنا نحن الكتّاب العرب ولا يمكن نسبتها لهم بأيّ حال.
وللتوضيح أكثر سأنطلق لإيصال هذه الفكرة من قصّة «تفاصيل صغيرة» للكاتبة علا الحوفان، المنشورة في مجلّة الجزيرة الثقافيّة، العدد رقم 742، بتاريخ يوم الجمعة 8 جمادى الأولى من عام 1444هـ، وأنصح بقراءة القصّة قبل استكمال هذا المقال لتتّضح الصورة. وكنت قد استأذنت الكاتبة لدراسة قصّتها والاستدلال بها في هذا الباب، ومنحتني كرمًا الضوء الأخضر، وإن كانت بالتأكيد لا تعلم ما سأقوله هنا ولم تطّلع عليه، إذ لم تجد حرجًا في الحديث عن عملها سلبًا أو إيجابًا، ثقة في قلمها، وإيمانًا منها بأنّ على الكاتب التخلّص من تبعات هذا القلم طالما نشر مداده؛ وهو النهج الذي يرسم خطوط الإبداع ويظهر ملامحه، ويعدّ وثيقة النشر الموقّعة ضمنيًّا بين الكاتب وقرّائه.
في هذه القصّة الجميلة التي -للحق- كانت ملفتة، وغاية في الروعة، وأمسكت بتلابيبي فلم تفلتني إلّا بعد الانتهاء منها، وقد رسم جمالها ودقّتها البسمة على شفتَيّ، وكنت في كامل تركيزي ولياقتي الذهنيّة وأنا أمضي معها في تفاصيلها الساحرة المكتوبة بعناية فائقة، وبمقدرة سرديّة مميّزة، وبأسلوب مكثّف عرفَ ما يُكتب وما لا يكتب في القصّة القصيرة، فأظهرت لنا الإيجاز والتكثيف، والبناء السرديّ، والفضاء المكاني والزماني، وكلّ ما نحتاج إليه للخروج بقصّة متقنة، عدا إخفاقها في النهاية التي سأتطرّق إليها لاحقًا، وبعض الهنات البسيطة في الأسلوب والمفردات التي لا يخلو منها أيّ عمل سرديّ، ويمكن تلافيها بالتدقيق والمراجعة. ولعلّي أقول هنا بتجرّد، إنّ القصّة القصيرة -في ظنّي- لا تُكتب إلّا بهذا الأسلوب السهل الممتنع الذي يسحرك بجماله من دون تفسير، ويفتنك ببساطته من دون تقليل، بمعنى أنّه يجيد إمساك السرد من منتصفه، فلا تكلّف ولا استسهال، مع تقيّده بخلق مستويات من الفهم المتعدّد، تُخرج الحكاية من إطارها السطحيّ إلى العمق، وهو ما اشتهر به الأدباء الروس العظام ومن حذا حذوهم بعد ذلك، أو من انتهج هذا النهج قبلهم واستثمره، أمثال تشيخوف وتولستوي.. وانطلقوا منه لكتابة القصّة القصيرة الإبداعيّة بصورتها الكلاسيكيّة المألوفة.
كلّ ذلك كان رائعًا وجميلًا، يجعلك ترفع القبّعة احترامًا للكاتب، لولا وقوعه في ما كنت أحذّر منه بداية، وهو التقليد المستمرّ، وعدم التخلّص من تبعات قراءة الأدب الغربيّ والافتتان به، والخروج بحكاية من رحم هذه القراءة لا تتّصل مطلقًا ببيئتنا وتجربتنا الحياتيّة، ما يجعلك تعتقد لوهلة أنّك أمام قصّة مترجمة أو مقتبسة من قصّة غربيّة؛ فأبطال الحكاية وفضاؤها المكانيّ وكلّ تفاصيلها الدقيقة لا تمتّ لبيئتنا بصلة، فمن يطّلع عليها وهو لا يعرف أنّها لكاتب عربيّ، سيقسم أنّها مترجمة من الأدب الغربي من دون أن يرهق نفسه بالبحث والتقصّي، إذ لا ينقصه غير اسم الكاتب الغربي فقط ليبرهن عن صدق حدسه، فلا شيء يمثّل الهويّة العربيّة في كامل القصّة عدا اسم الكاتب، وهذا بالطبع غير مقبول، من وجهة نظر شخصيّة؛ أقول ذلك وأنا من أنصار نقل الحكاية إلى أيّ مكان واستحضار مَن نشاء من الشخصيّات الغربيّة، ودمجهم في حكايتنا، بل والتطرّق إلى تفاصيلهم المكانيّة، وإدارة الحوار بطريقتهم، على شرط وجود خيط وإن كان رفيعًا يربطها بالكاتب العربي ويخرجها من دائرة الأدب الغربي المحض. فالحكاية العربيّة يمكن نقلها إلى أيّ فضاء مكانيّ، واستحضار المكان بكل مكوّناته المادّيّة والبشريّة، والحديث كما نريد عن بيئة ليست بيئتنا. ولا بأس هنا من بعض التشابه المنطقي والمبرّر مع بعض الكتابات الغربيّة. ولكن، الخطأ الجسيم الذي لا يُقبَل هو سلخ الحكاية كلّيًّا عن خبرات الكاتب الحقيقيّة، والذهاب بها إلى خبراته القرائيّة، وهو ما أرفضه، وأعتقد أنّ شريحة كبيرة من القرّاء يرفضونه ويقلّلون من أيّ عمل يحمل هذه الصفة؛ لأنّنا إن أردنا الحكاية الغربيّة نعلم أين نجدها، ولسنا بحاجة لكاتب عربيّ يكتبها لنا، فيكون مثَله كالغراب الذي حاول تقليد مشية الحجل فلا هو أتقنها ولا استطاع العودة إلى مشيته المعتادة؛ وهو ما يجعلني أؤمن بأنّ للكاتب مطلق الحرّيّة في اختيار فضاء سرديّته بشرط أن يكون الشخوص جميعهم، أو أحدهم على الأقل، من بيئة الكاتب. فلا يعقل أن نقرأ قصّة لكاتب عربي يحتاج لأن يُقسم لنا أنّها غير مترجمة عن الأدب الغربي، إذ لا شيء يلصقها به غير اسمه. يستثنى من ذلك من نشأ بين ظهرانَيْهم، وعاش في كنفهم، وتطبّع بطباعهم، ولم يبقَ منه غير لسانه العربي، فهنا نقبل سرده على مضض، ونعدّه حلقة وصل بين ثقافتين.
في ظنّي، خروجنا من هذه الإشكاليّة بسيط وفي المتناول، وهو ما نطلق عليه مفهوم صناعة القصّة أو تخليصها من شوائبها في مرحلة لاحقة تعقب الانتهاء من مسودّتها.
في قصّة «تفاصيل صغيرة» تحديدًا، يمكن بكلّ بساطة تحويل المكان والشخوص من بيئتهم الغربيّة إلى البيئة المحلّيّة دون تغيير في الحكاية ومغزاها العميق وقيمتها السرديّة؛ فما قامت الساردة بروايته عن رجل غربيّ وبيئة غربيّة يمكن أخذه كما هو وإنزاله على بيئة الكاتب العربي طالما أنّ إمكانيّة حدوثه واردة ولا يتنافى مع المنطقيّة التي يبحث عنها بعض النقّاد ويقاتل من أجلها معظم القرّاء، وبالتالي لا يمكن لأحدهم الاعتراض على الكاتب، حتى وإن شعر بأجواء الكتابة الغربيّة. فسعيُ أحدهم للانتحار، كما ورد في الحكاية المسرودة، أمر وارد في كلّ الثقافات والديانات، وضحاياه من مختلف المِلَل: مسلمين وبوذيّين ومسيحيّين ويهود.. ومن كلّ جنس ولون، فالشيطان واحد في كلّ هذه الحالات، والأسباب قد تكون نفسها؛ ما يعني أنّ كلّ ما حوته هذه القصّة الرائعة يمكن إنزاله على بيئتنا بشيء بسيط من التصرّف الذي لن يعجز عنه كاتب لديه هذه الإمكانات الكتابيّة المذهلة...
الشاهد هنا -والحديث موجّه إلى كلّ المفتونين بالكتابات الإبداعيّة الغربّية- أنّ إعجابنا بهذه الإبداعات لا يعني استنساخها، وإنّما علينا تتبّع خطوط إبداعهم، واكتشاف أساليبهم البنائيّة، ودراسة نقاط قوّتهم وضعفهم، والانطلاق من ذلك كلّه لإظهار شخصيّتنا الإبداعيّة العربيّة المستقلّة التي تشير إلى ثقافتنا وتجربتنا الحياتيّة وخبراتنا التراكميّة.
وأظنّ كاتبتنا المبدعة، لو اقتنعت بهذه الفكرة، ستشاهد بأمّ عينها كيف يمكن تحويل حكاية غربيّة لكاتبة سعوديّة إلى حكاية سعوديّة بامتياز، من خلال جلسة عمل لا تتعدّى الساعة أو الساعتين، وتكون بذلك قد انطلقت لبناء هويّتها الإبداعيّة العربيّة، وخلعت الرداء الغربيّ إلى الأبد.
وحتّى تعمّ الفائدة، طالما أنّنا تطرّقنا إلى هذا النصّ موضع النقد، سأعرّج على ملاحظة أخرى كانت لترتقي بالعمل أيضًا وتخلّصه من شائبة مهمّة وقعت فيها الكاتبة -من وجهة نظري- وتتعلّق بالنهاية التي كانت رائعة وجميلة وإبداعيّة، لولا أنّها صرّحت بعمقها المثري، وذكرته صراحة، ولم تتركه لفطنة القارئ، ما أعطى الحكاية بعدًا وعظيًا أو تقريريًّا مرفوضًا في السرد، وأضاع النهاية الرائعة التي كانت الحكاية ستنتهي بها؛ فالقصّة انتهت بالفعل عند سقوط «قطعة حديد» فوق رأس البطل وموته، وكان على الكاتبة في تلك اللحظة أن تغلق قلمها، وتتوقف عن السرد، إذ لم يعد النصّ يحتاج منها شيئًا بعد ذلك، سوى النقطة؛ ليأتي بعدها القارئ وينهض بدوره في تلقّي الحكاية وفهمها، والتوقّف عندها، ثم الاتّصال بها عندما يجد نفسه جزءًا منها، إذ لا تستقيم إلّا بمحاولة فهم مغزاها، وإكمالها في رأسه وهو يردّد بالفعل ما قالته الكاتبة وقمنا بحذفه، ويهزّ رأسه افتتانًا بقدرته على الفهم والغوص في أعماق السرديّة؛ الأمر الذي سينتج عنه تعلُّق المتلقّي بالنصّ، وديمومة تأثّره به، وارتفاع أسهمه، ما يمنحه قيمة كبيرة مستدامة كانت لتضيع لو سمحنا للقلم أن يدوِّن مراد الكاتب، ويُظهر مقصده، كما فعلت الكاتبة هنا.
في النهاية، إنّما أردت من هذا الطرح إيضاح أنّنا في كثير من الأحيان لا يكون بيننا وبين الإبداع الحقيقيّ إلّا شعرة، لو تنبّهنا لها مبكّرًا قبل النشر لاستطعنا تخليص كثير من السرديّات من شوائبها، وأظهرنا جمالها الحقيقيّ وقيمتها الإبداعيّة المغيّبة. ولا يلزمنا لتحقيق ذلك إلّا شيء من الفهم للأسس التي يبنى عليها السرد الإبداعيّ، ويخلّصها من هناتها ويستعيدها من زلّاتها. وقبل كلّ ذلك، علينا رسم هويّتنا الإبداعيّة، وتخلّصنا من طغيان السرديّات الغربيّة، وإلإيمان بمقولة «ومن الحبّ ما قتل».