إنها العشر الأواخر من شهر رمضان، تتقاطر السيارات في شارع الملك عبد العزيز، تتابع مخيف يبعث على الرهبة من حدوث حوادث خطرة بسبب ذلك الازدحام، كأن الناس في مضمار سباق مع الزمن، غايتهم الوصول دون أن يفكروا في الثمن!
سيارات رابضة في المواقف الأمامية و الخلفية و سيارات لا زالت تدور يبحث أصاحبها عن مواقف يدفعون بها داخلها، أمل قد ينتهي بخيبة عند قُرب انتهاء البنزين و دنوا صلاة المغرب.
تتقاطر السيارات في موج كالبحر الهادر الذي يقتحم البيوت دون أن يستأذن من أهلها، بل يجرف ما يجدهُ أمامهُ دون رحمة.
ترتفع أصوات أبواق السيارة التي تشعرك بسماع لحن "نشاذ" لذلك المساء الذي يفترض أن تعمه السكينة الروحانية و لكن تُصدم أذنيك ما أن تسمع الكلمات النابية .. التي تُقذف في حالة من ثورات الغضب، والتحجج بالصيام!.
تقف مذهولا أمام ذلك الركض الذي لا يتوقف حتى بزوغ شمس يوم العيد، شقيقاتي يتسوقون في الصباح و المساء و أمي و خالتي يتسابقون على الانتهاء من الواجبات الاجتماعية التي تبدأ من العاشرة مساءً حتى الثانية أو الثالثة صباحاً و والدي يمضي وقتهُ بالديوانية مع رفقتهِ، ولا يعود إلى البيت إلا بعد صلاة الفجر.
كنت أقف فوق جسر المشاة الذي سكنهُ التراب و المعلبات و الأكياس و صراخ الأطفال و ثرثرة النساء عن الغلاء و الملابس المناسبة للعيد، و حضور الحفلات التي تبدأ مع بزوغ الهلال، تذكرت أن حفل زواج ابن خالتي و صديقي عيسى مساء يوم العيد، كانت مصادفة صادمة فكيف أمضي نصف الوقت هنا و نصفهُ هناك! وأن لم أحضر زواج ابن خالتي الذي لا تربطني به علاقة سوى القُربى، سألام من قبل أمي و خالتي و جدتي التي سوف تقول لي (بديهنت) الغريب على القريب! كتمت ما بنفسي عن تلك القرابة الباردة، فالمرآة لا تعكس الحقيقة دائما، وكم تمنيت أن يختلف يوم العيد! اختلاف شطر فكري و روحي و مبادئ وطريقي كذلك، فلم أعد أدرك الصواب من الخطأ.
جَمعت شُتاتَ نفسي، مثلما يفعل ذلك الشاب الذي يفترش تحت سلم الجسر، مِفرشاً يضع عليه بضاعتهِ من أدوات و اكسسوارات الجوال (أسلاك الشاحن، السماعات، عطور) أشياء مختلفة يبيعها بأسعار قد تكون مقبولة عند البعض، كان صاحب المحل يقوم على طردهِ معلل ذلك بأنه يدفع أجار المحل، و رواتب العمال، و فواتير الكهرباء، و الماء، وعملهُ ذلك بمثابة قطع الرزق، فينتقل إلى مكان أخر، أحياناً يقابل بالقبول، والأغلب يكون الرفض و الطرد.
يجلسنا المتسولات بجوار المحلات فتجود عليهم الأيدي، يتضاعف العطاء عندما يكون بصحبه المتسولة طفل رضيع لا توجد في قدميه الصغيرة جوارب، و لا على رأسهِ قُبعة تحميه من تقلب الجو,و تلف جَسدهُ الصغير في خرقة بالية، تستعطف من خلالها قلوب العابرون!
كانت أمي تطوي ورقتها بعد الانتهاء من عملية الشطب اليومي، و كذلك أخواتي أما أنا فلازلت أحاول أن أفتح ورقتي التي كتبت بها ما أريد .
كنت أريد أن أشتري لي ساعة جديدة، وحذاء و عطر، وعودة فاخرة، و مسبحة حباتها من العقيق الأحمر، وثلاث "شماغات" و عقال و كبك" مناسب لكل ثوب من أثوابي التي لابد أن أخذها من عند الخياط و أذهب بها إلى المغسلة ثم أطلب من العامل ( غسيل و كي) و كذلك علي أن أذهب إلى الحلاق حتى أحلق شعر رأسي .. فجدتي تشبهني بالمغني عبد الفتاح الجريني عندما تراني قائلة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنتَ ما أنت مِنا) فكُنت أمازحها قائلا: لا منكم و لا منهم أنا من العالم السفلي لتقول و هي في حالة غضب (( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كِش منك و منهم)) دَعتك جبهتي قلت بصوت منخفض، ربما جدتي هي أول من قال كلمة (كِش) في العالم ، ثم سُرقت مع ما سرق من كتب العرب، فكانت النهاية كِش ملك!.
تذكرتُ أن علي أن أودع السيارة المغسلة بعدما تلوثت بفضلات خروف العيد الذي قَيدتهُ في( حوش) بيتنا بجوار شجرة الليمون.
طويت شارع الملك عبد العزيز بتلك التفاصيل بداخلي، ثم غادرت المكان طاوياً و رقة مشتريات في جيبي منتظراً الوقت المناسب فالاحتمال الأكيد أنني لن أنتهي إلا صباح العيد، عندما تغني الزهور في كل بيت، و نسمع أهلا، أهلا بالعيد.
** **
- مسعدة اليامي