رضا إبراهيم
في أربعينيات القرن العشرين، اعتبر إدخال البنسلين بداية لعصر المضادات الحيوية، وأحد أعظم تطورات الطب العلاجي، وكان لاكتشافه في بريطانيا والاعتراف الأولي بإمكانياته العلاجية حدثاً مدوياً، ولكن بسبب الحرب العالمية الثانية لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تطوير وإنتاج واسع النطاق للبنسلين وصنعه كمادة منقذة للحياة، من إمداد محدود إلى دواء متوافر على نطاق واسع، والبنسلين بشر ببزوغ فجر عصر المضادات الحيوية، فلم يكن هناك قبل تقديمه علاجاً فعالاً للعدوى كالالتهاب الرئوي أو السيلان أو الحمى الروماتيزمية.. إلخ، كما كانت المستشفيات زاخرة بالمصابين بتسمم الدم نتيجة جرح أو خدش، ولم يكن بمقدور الأطباء فعل الكثير لأجلهم سوى الأمل والانتظار والدعاء.
وترجع بداية اكتشاف البنسلين إلى شهر سبتمبر عام 1928م عندما بدأ العالم البريطاني ألكسندر فليمنج أستاذ علم الجراثيم بمستشفى سانت ماري في لندن، ومع بدء العمل على تطوير البنسلين بجامعة أكسفورد، كان العالمان هوارد فلوري وإرنست تشاين ونفرُ من زملائهم من الأطباء بكلية «السير ويليام دن» لعلم الأمراض بجامعة أكسفورد هم من حولوا البنسلين من فضول المختبر إلى دواء منقذ لحياة البشر.
وليبدأ عملهم بتنقية البنسلين وتعديل خواصه بشكل جدي عام 1939م وهو نفس عام بدء الحرب العالمية الثانية، والتي كان لها واقع على تلك الأبحاث وجعلها صعبة جداً، لاحتياج فريق تنفيذ برنامج التجارب على الحيوانات والتجارب السريرية إلى معالجة (500) لتر أسبوعيا من ترشيح العفن، كما بدأ الفريق بزراعته في مجموعة عجيبة من أوعية الاستزراع كالحمامات وأحواض الأسِرَّة ومخضبات الحليب وعلب الطعام، وبعد ذلك صُمم وعاء تخمير مخصص لسهولة الإزالة وتوفير المساحة وتجديد المرق تحت سطح القالب، ووظف فريق من فتيات البنسلين مقابل (2) جنيه إسترليني أسبوعياً، لتلقيح التخمير والعناية به بصورة عامة، وبذلك تحول مختبر أكسفورد إلى مصنع للبنسلين.
وفي عام 1940م، أجرى فلوري تجارب حيوية، أظهرت أن البنسلين يمكن أن يحمي «الفئران» من العدوى من المكورات العقدية القاتلة، وبعد عام واحد وفي فبراير عام 1941م أصبح رجل الشرطة البريطاني ألبرت ألكسندر (43) عاماً أول متلقي لبنسلين أكسفورد، أملاً في علاج خدوش أصابت فمه عند تقليمه بعض الورود، نتج عنها إصابته بعدوى هددت حياته ببثور ضخمة أثرت على عينيه ووجهه ورئتيه، وعقب حقنه وفي غضون أيام تعافى بشكل ملحوظ، ولكن لنفاد إمدادات الدواء مات ألكسندر بعد أيام، تبعه الوصول لنتائج بدت مرضية مع مرضى آخرين تتشابه حالتهم مع حالة الشرطي البريطاني، وما لبث أن تم وضع خطط لإتاحة البنسلين للقوات البريطانية في ساحة المعارك.
وفي الولايات المتحدة كانت هناك أيضاً حاجة إلى كميات كبيرة من البنسلين، لإجراء التجارب السريرية المكثفة المطلوبة، وتأكيد الوعد بالنتائج الأولية، وتوفير الإمدادات الكافية من الدواء للاستخدام العلاجي، إذ كان قد حقق إمكاناته عقب أن أدرك فلوري أن إنتاج البنسلين على نطاق واسع، ربما كان غير وارد ببريطانيا، لأنه تم استيعاب الصناعة الكيميائية بالكامل في المجهود الحربي.
وبدعم من مؤسسة (روكفلر) سافر فلوري وزميله نورمان هيتلي إلى الولايات المتحدة صيف عام 1941م، لمعرفة ما إذا كان بإمكانهما الاهتمام بصناعة الأدوية الأمريكية، في محاولة إنتاج البنسلين على نطاق واسع، وفي الولايات المتحدة بدأ البحث العالمي عن سلالات أفضل لإنتاج البنسلين، مع إرسال عينات من التربة إلى (المختبر الوطني لبحوث الاستخدام الزراعي) في بيوريا بولاية إلينوي إلى كافة أنحاء العالم، والعجيب أن السلالة الأكثر إنتاجية جاءت من فاكهة «الكنتالوب المتعفن» التي أحضرت من سوق فواكه بيوريا.وباستخدام الأشعة السينية بجامعة كارنيجي ميلون، تم إنتاج طفرة كبيرة عُرفت بـ»سلالة الكنتالوب» وعند تعرض هذه السلالة للأشعة فوق البنفسجية بجامعة ويسكونسن زادت إنتاجيتها بشكل أكبر، وفي ديسمبر عام 1941م كان «مؤتمر البنسلين» الذي عقد في نيويورك بعد عشرة أيام فقط من قصف مرفأ «بيرل هاربور» بالمحيط الهادئ، ودخول الولايات المتحدة الحرب من بين المؤتمرات الأكثر حسماً.
وفي المؤتمر الذي حضره عدد من رؤساء الشركات الطبية، تم الاتفاق على أنه على الرغم من أن الشركات ستواصل أنشطتها البحثية بشكل مستقل، لكنها ستُبقي حاضري المؤتمر على علم بتطوراته، ويمكن لمنظمي المؤتمر إتاحة المعلومات على نطاق أوسع بإذن من الشركة المعنية لاعتبار ذلك مصلحة عامة، وحول الإنتاج التجاري بالحرب العالمية الثانية أدت القيمة الواضحة المتزايدة للبنسلين في المجهود الحربي إلى قيام مجلس الإنتاج الحربي الأمريكي عام 1943م بالتأكيد على أن أحد أهدافه الرئيسية، الحصول على إمدادات كافية من البنسلين، وجعله بمتناول اليد من أجل غزو الحلفاء لشواطئ «النورماندي» لتحرير القارة الأوروبية.
وقد حفزت المشاعر الوطنية في زمن الحرب بشكل كبير، العمل على إنتاج البنسلين ببريطانيا وأمريكا، وتأكيدا عليه كتب شيخ الكيميائيين الأمريكيين ألبرت الدر رسالة عام 1943م إلى المصنّعين قال فيها «نحثكم اليوم على إقناع كل عامل في مصانعكم التي تنتج البنسلين، من شأنه أن ينقذ حياة شخص ما بغضون أيام قليلة، أو يعالج مرض شخصاً ما عاجز».
وفي باكورة الدعاية حول (الدواء المعجزة) ازداد طلب المواطنين على البنسلين، لكن الإمدادات كانت محدودة في البداية لإعطاء الأولوية للاستخدام العسكري، وكانت مهمة الدكتور تشيستر كيفر بولاية بوسطن رئيس لجنة العلاج الكيميائي بالمجلس القومي للبحوث مهمة صعبة جداً ولا يحسد عليها أبدا، كونها تمثلت في تقنين إمدادات الدواء للاستخدام المدني، ما اضطره لتقليل استخدام الدواء على الحالات التي فشلت فيها طرق العلاج الأخرى، وكان جمع معلومات سريرية مفصلة حول استخدام الدواء، هو أيضاً جزء من وظيفته، حتى يمكن تطوير فهم أكمل لإمكانياته وقيوده.
وبحلول عام 1944م بات البنسلين علاجاً أساسياً للأمراض بالجيش البريطاني والأمريكي، وفي مارس نفس العام افتتحت شركة «فايزر» في بروكلين بنيويورك أول مصنع تجاري لإنتاج البنسلين على نطاق واسع، عن طريق الزراعة المغمورة في نيويورك، بعد أن أسفرت خطوات التخمير والاستعادة والتنقية والتعبئة والتغليف عن اتحاد جهود علماء الكيمياء من العاملون على نجاح الإنتاج التجريبي للبنسلين، وفي غضون ذلك أكدت الدراسات السريرية في كلا القطاعين العسكري والمدني الوعد العلاجي للبنسلين، واتضح أن دواء البنسلين فعَّال في علاج مجموعة كبيرة من الالتهابات، بما فيها عدوى المكورات العقدية والمكورات العنقودية والمكورات البنية. وأظهرت دراساته السريرية أيضاً عظم فعاليته ضد مرض «الزهري»، وتجلت قيمته وأهميته في علاج التهابات الجروح والإصابة في صفوف الجيش الأمريكي، وفي أوائل عام 1944م بدأ إنتاج البنسلين في الزيادة بشكل كبير وزاد إنتاجه في الولايات المتحدة من (21) مليار وحدة عام 1943م إلى (663.1) مليار وحدة عام 1944م، وإلى أكثر من (8.6) تريليون وحدة عام 1945م، وتغيرت تقنيات التصنيع بالحجم والتعقيد من قوارير سعة (1) لتر، مع إنتاج أقل من (1) بالمائة لخزانات سعة (10000) جالون بمعدل (80 - 90) بالمائة.
وفي النهاية تمكنت الحكومة الأمريكية من إزالة أي قيود مفروضة على توزيعه، وفي منتصف مارس عام 1945م وزع البنسلين عبر الوسائل المعتادة وبات متاحاً للمستهلكين في الصيدليات، وفي شهر يونيو عام 1946م ولتلبية الاحتياجات المدنية في بريطانيا، تم طرح البنسلين لأول مرة للبيع لعامة الشعب، كدواء ووصفة طبية فقط، وبقدوم عام 1949م وصل حجم إنتاج أمريكا السنوي للبنسلين إلى (133229) مليار وحدة، تبعه انخفاض السعر من (20) دولار لكل (100000) وحدة عام 1943م إلى أقل من (10) سنتات.
وخلاصة ما تقدم: توجد هناك صعوبة كبيرة حول تقدير عدد الأرواح البشرية التي أنقذت نتيجة استخدام جرعات البنسلين، فبعد مضي أكثر من (75) على اكتشافه والعمل به أثناء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، يتضح نجاحه بإنقاذ الملايين، وعلى ذلك يعلق الدكتور تشارلز فليتشر أول طبيب لإدارة البنسلين للمرضي بقوله (يصعُب نقل الإثارة التي تشهد قوة البنسلين المذهلة أثناء قضائه على الالتهابات، التي كانت سابقاً دون أي علاج فعَّال).