الذكريات هي أحداث مضت، رسخت في ذاكرتنا، في آلامها وآمالها، بمفرداتها الجميلة، ودروسها القاسية، باللقاء والفراق، الشوق والحنين، النجاح والفشل، ذاكرة جمعت المتناقضات والتفاصيل، صنعت الكثير من المشاعر واحتفظت بها، لنسترجعها بين حين وآخر وليرافقنا بعضها أغلب أيامنا، وتستمر حياتنا بصنع ذكريات جديدة قد تشابه القديم منها وقد تختلف.
والحنين لهذه الذكريات شعور يصاحبنا جل أوقاتنا ليكون حافزاً لنا لحاضرنا ومستقبلنا، والفن هو لغة المشاعر ومفردات الأحاسيس التي تترجم ما لا يستطيع الكلام إيصاله فيكون الفن مرآة لتلك الذكريات.
من تجلي الذكريات أقام معهد مسك للفنون - التابع لمؤسسة سمو الأمير محمد بن سلمان الخيرية - دورة أقام بها كاتبة وتسع مصممين لمدة ما يقارب الشهرين في صالة الأمير فيصل بن فهد بمدينة الرياض.
وأوضح معهد مسك أن هذه الدورة تمهد من إقامة مساحة الحوار حول كيفية تفسير التصميم أو مشاركته أو البحث فيه أو تنفيذه، وتطرح تساؤلًا حول كيف لذكريات الماضي أن تُتَرجِم حِس الصدق والارتباط في التصميم أو الحلم لدى المصمم، حيث يبحث مبدعو الإقامة لينتجوا أعمالًا تُجسد دور التصميم كوسيلة للإنشاء والتجديد والاستباق بالماضي، بالنظر إلى إرث النشاط البشري من سرد الذاكرة الثقافية المادية، بالتركيز على التصميم من منطلق الحنين إلى الماضي.
نوف عبدالكريم
تحدثت الكاتبة نوف عبدالكريم التي شاركت بالإقامة بدورها ككاتبة أنها عملت على مشروعين، الأول هو توثيق تجربة الفنانين المشاركين بمقالات وحرصت على تدوينها باللغة العربية نظراً لحاجة المجتمع الفني لمقالات مكتوبة باللغة العربية، وهو عبارة عن حقيقة بناء حكاية ممتدة عن كل انسان خلف هذا المصمم لتتقاطع مع عمله وتصميمه وعرضت على شكل اقتباسات وصور معلقة في مساحة بشكل فني، أما المشروع الثاني فهو سؤال يمتد على من يشكل ذاكرة المدن وانطلق من هذا السؤال هذا المشروع بعنوان (مرآة المدينة) ومن خلاله يختبر تجريب مرونة اللغة العربية على الجمع بين أشكال كتابة مختلفة ويتضمن قراءة ممارسة الفنان أياً كان نوع فنه من فنون بصرية وعمارة وموسيقى وأدب ومن خلال هذه القراءة ترى الكاتبة نوف عبدالكريم كيف حضرت ذاكرة المدن، وهل حضرت بشكل متكامل أم بشكل بسيط.
* * *
روان السهلي
وقالت المصممة روان السهلي - المتخصصة بتصميم المجوهرات - إن فكرة مشاركتها بهذه الإقامة هو إعادة صياغة بعض الممارسات التقليدية في قطع مجوهرات فنية قابلة للارتداء حيث استلهمت أفكارها من الممارسات التقليدية في سبعينيات القرن الماضي والتي اندثرت بوقتنا الحالي ومنها ليف النخيل الذي كان يستخدم لفلترة القهوة السعودية من الهيل ولذلك نجد أغلب التصاميم مستوحاة من ليف النخيل والهيل، كذلك استخدمت المصممة روان السهلي سعف النخيل في التي تعيدنا بالذاكرة الى استخداماتها القديمة في مختلف أنحاء المنزل، ودمجت أيضا قطع مصاغة من معدن الفضة المرتبطة بليف النخيل الطبيعي لتشكل قطعة مجوهرات فنية عصرية وعرضت أيضاً المواد الأولية الطبيعية التي استخدمتها في تصاميمها وعرضت مراحل التجارب والدراسة التي عملت عليها إلى أن وصلت لهذه المنتجات الإبداعية بشكلها النهائي وعرضت أيضاً الكتب والمراجل لنرى تجربتها المكتملة بشكلها الاحترافي الفني والذي يعد مشروعا متكاملا يتناغم بين التراث والعصرية بتجلي ذكريات الفنانة والمصممة روان السهلي.
* * *
ريما تركي ناصر
وقالت المصممة ريما تركي ناصر إن هذه الإقامة اختصت بالمصممين حيث بدأت تجميع أفكارها من خلال بعض الصور التي ارتبطت بالنسيان أو الذكريات بالأشياء التي نمتلكها ومنها نتجت فكرة عملها الفني الذي تمثل بهيئة كرسي مكون من العديد من الطبقات وأننا عبارة عن ثنايا من الذكريات وأن كل تفاعل في الحاضر يعود على ثنايا الماضي ويتأثر بها حيث ترمز الطبقات الذي تكون منه الكرسي إلى الوقت وبعدنا عن بعض الذكريات في حياتنا والموجودة في عقلنا الباطن وتواجد بعض الفراغات بين الطبقات لتعبر عن الذكريات المتواجدة في داخلنا، وتجسد هذه الفراغات والانحناءات الموجودة بين طبقات العمل عند ملامسة الجسد لهذا الكرسي سيجد الإحساس بهذه الذكريات المشكلة ببعض الملامس على سطح الكرسي أو التجاويف بين طبقاته.
وهنا نجد الفنانة ريما تركي ناصر قد جمعت في عملها بين الفن والتصميم بأسلوب معاصر جمع بعض المفردات المفاهيمية وبعض مفردات التصميم الحديثة حيث اعتمدت وجود هذا الكرسي بتصميم جمالي إضافة لوجود الملامس والتجاويف بشكل فني مدروس ليضفي الإحساس على من يستخدمه بفكرة تجلي الذكريات وليشكل إبداعا متفردا يثبت ترجمه هذا التناغم الجميل في العمل.
* * *
هاجر الإبراهيم
أما المصممة هاجر الإبراهيم فقد اختارت في مشاركتها طاولة الجدة, تلك الطاولة التي رسخت ذكرياتها في مخيلة كل منا, حيث كانت هذه الطاولة هي مكان يجتمع فيه الجميع لتبدأ حكايات الجدة التي كانت بمثابة قصص وروايات تمتعنا كأطفال, حيث قالت الفنانة هاجر: أردت من خلال هذا العمل نقل تجربتي مع جدتي وتوثيق ذكرياتي معها وتوثيق هذه الحياة القصصية ونقلها إلى أولادي لكن بطريقة حديثة، حيث ترينا الطاولة عند ضربها قصة ما بطريقة تكنولوجيّة حديثة تجذب الطفل بمخيلته وتجعله يعيش الأحداث باندماج الصوت مع الفيديو المعروض بطريقة تقنية تتناسب مع وقتنا الحاضر, واستعانت الفنانة هاجر الإبراهيم بالعديد من المصادر في أبحاثها لتكمل هذا المشروع وتهدف إلى تطوير مشروعها لتكون القصص عن 100 شخصية من الشخصيات التاريخية التي ارتبطت بقصصنا القديمة.
* * *
نهلة خوقير
واختارت المصممة نهلة خوقير ذكريات من بيئتها لتكون مسيرة الحج هي مشروعها الذي استلهمته من ذكريات عائلتها حيث قالت إن أهلها كانوا مطوفين للحجاج في مكة المكرمة فكان لديها شغف لهذا الموضوع، حيث حاولت جمع العديد من المصادر المتواجدة لديها مثل الخرائط التي كان يوزعها جدها للحجاج منذ ما يقارب الأربعين عاماً والتي كانت ضمن تفاصيلها تفاصيل الحج والمشاعر والطرق التي يسلكها الحجاج بين الحرم والمشاعر ليكملوا مناسك الحج، فشكلت من خلال الأسلاك المعدنية مسيرة الحاج بدايةً من الحرم المكي الشريف وطوافه حول الكعبة ثم السعي ثم خروجه إلى المشاعر بمنى ومزدلفة وعرفات وعودته إلى الحرم، ثم اختارت أن تشكل هذه المسيرة أيضاً على طاولة خشبية نحتتها بشكل يدوي واختارت أن تكون من خشب التيك الذي كان يستخدم في صناعة الرواشين واساسات البيوت في مكة سابقاً فشكلت عليه تضاريس جبال مكة لتعطي الإحساس الحقيقي بطبيعة المكان، كما عرضت أيضاً بعض النماذج الأولية التي بدأت بها مشروعها من نحت وأسلاك وعرضت الخرائط القديمة والكتيبات التعريفية التي كانت تستخدم أثناء الحج.
واستطاعت الفنانة نهلة خوقير من خلال عملها هذا ترسيخ الذكريات من خلال تصميم عمل فني متعدد الأجزاء يظهر من خلال بحثها وأفكارها تاريخاً عظيماً لإحدى فرائض الإسلام وهي فريضة الحج.
* * *
غسان العمير
واختار المصمم غسان عمير قطع الأشجار لتكون هي الذاكرة, حيث أخذ مجموعة من الحطب المتواجد بالشارع ليقوم بنحتها على أشكال مختلفة ليثبت من خلال بحثه أن الشجرة هي كائن حي وله أحاسيس وذكريات وأن كل قطعة من هذه القطع التي كانت على جنبات أحد الطرق في يوم ما كانت جزءاً من شجرة قد تكون أثمرت وعاشت حياتها, فشكّل الفنان غسان العمير من خلال هذه القطع المنحوتة العديد من الأشكال التي تتحرك بتناغم مع موسيقى لتروي هذه الذكريات التي تجلت بين أغصان تلك الأشجار وعلى أوراق قد كانت عليها في يوم ما وعلى عصفور حط على غصنها في الماضي, كما أراد الفنان إيصال فكرة توعوية بالحفاظ على الأشجار والبيئة بشكل عام.
* * *
فاطمة الدوخي
وكانت المفردات المعمارية هي محور ذكريات المصممة فاطمة الدوخي، حيث اعتبرت أن الذكريات قد ترتبط بمفردات محددة من مكان ما, ترتبط بتشكيله المعماري أو بقصص أهله أو ارتباطاته وحتى المساحات المحيطة به وأبنيته. فاختارت الفنانة فاطمة الدوخي العديد من الأبنية التي علقت في ذاكرتها وجردت منها الكثير من المفردات لتصل إلى نماذج تعتبرها هي التي رسخت في مخيلتها من تلك المباني, ونتج عن هذه الدراسة وإبداع التصميم نماذج معمارية جديدة مميزة ارتبطت بتلك المباني لكن لها رونق فني خاص وأسلوب معماري جديد قد يكون لمبان مستقبلية.
وبهذا جمعت الفنانة فاطمة الدوخي بين إبداع التصميم وجمالية الفن في أعمال تضاهي التصاميم المعمارية العالمية بهوية مستوحاة من أبنية الماضي وأصالته وعراقته مع الإبداع المعماري الحديث وتخلد من خلاله ذكريات تجلت في مخيلتها لتلك الأماكن.
* * *
سارة البوعينين
أما المصممة سارة البوعينين فكانت فكرتها أننا نستطيع صياغة ذكرياتنا مع مرور الوقت وقد نضيف إليها الكثير من التفاصيل وقد نغير فيها جوانب من خلال تجاربنا الحياتية، فالعقل البشري قادر على تطوير بعض الذكريات الكاذبة وتعديلها وقد يصل إلى درجة أنه يصور لنا الخيال كحقيقة، فكان مشروعها عبارة عن مجموعة من الأعمال الفنية التي تروي لنا تستسل الذكريات وحجمها بحسب عمر الشخص وحجم أحلامه وطموحاته، حيث بدأت بطفل صغير يحبو لتنسج له مخيلته أشكالاً وأجساماً قد تبدو كبيرة أو تبدو كرسوم بحسب مخيلته الصغيرة، وفي مراحل الطفولة المتأخرة قد تكون الأحلام مخيفة بعض الشيء، حيث تصور للطفل بعض الوحوش أو الكائنات الغريبة التي قد تظهر له من خلال جدار غرفته أو من أسفل سريره، وفي العمل الثالث نرى أن الطفل قد كبر وزاد وعيه وإدراكه لتكون أحلامه أكثر نضوجاً وليكون طموحاً أكثر كأن يتخيل نفسه أحد رواد الفضاء.
استخدمت الفنانة سارة البوعينين في أعمالها بعض المواد الحديثة التي تجمع لنا بين الصورة الحقيقية ثم ترينا مدى التخيل لدى الشخص الموجود بالعمل من خلال صندوق خشبي بداخله بعض المجسمات ومراية تنير بمفردات المخيلة بمجرد أن توضع مادة خاصة صنعتها الفنانة.
* * *
بشاير الخياط
واختارت المصممة بشاير الخياط أن تكون الذكريات الجماعية هي فكرة مشروعها حيث إنها اهتمت بدراسة الذكريات الجماعية ومدى تأثيرها والفرق بين الذكريات الجماعية والذكريات الفردية، ومن خلال دراستها وجدت الكثير من المظاهر المحيطة بنا والتي تتجلى من خلالها الذكريات الجماعية كالتجاعيد التي تختلف من شخص لآخر وكأنها ترسم على وجهه تفاصيل الذكريات والتجارب والمعاناة، ولفتها أيضاً شبكة العنكبوت والتي وظفتها لتترجم فكرتها بالذكريات الجماعية، وقالت الفنانة بشاير الخياط إن شبكة العنكبوت هي عبارة عن لوحة فنية ترسمها أنثى العنكبوت، حيث توجد نظريات تقول إن هذه الشبكة هي ذكريات العنكبوت التي تجسدها الأنثى من خلال هذا العمل، واعتبرت الفنانة أن مركز الشبكة هو الحدث الذي تتكون من خلاله الذكريات لدى مجموعة من الناس ومجموعة الخطوط الطولية المتصلة بالمركز هي الذكريات التي استمدها كل شخص، أما الخطوط الدائرية التي تتمحور حول المركز وترتبط بالخطوط الطولية فهي الروابط التي تتصل بين الذكريات الشخصية لمجموعة الأشخاص الذين أثر فيهم هذا الحدث المركزي، فعندما نحرك أي خيط من هذه الخطوط نجد أن كل أجزاء الشبكة تتحرك وهذا ما ما يثبت هذا الترابط وهذا ما يمثل ارتباط الذكريات الجماعية.
استخدمت الفنانة بشاير الخياط في صناعة هذا العمل خيوط الأسنان المطلية بمادة شمعية نظراً لكونها الأقرب لشكل خيوط شبكة العنكبوت، كما أنها اختارت نفس الطريقة التي تنسج فيها أنثى العنكبوت شبكتها.
اختارت الفنانة بشاير الخياط نموذجا فنيا من الطبيعة لتدرسه وتدرس السلوك الذي يبنى به لتبين للمتلقي بأسلوب فني راق وفلسفة فكرية ما تمثله الذكريات الجماعية وما تشكله من ترابط بين أفراد المجتمع.
* * *
عبير الربيعة
أما المصممة عبير الربيعة فمن خلال خبرتها في تصميم الإنارة وتصاميم المنتجات فقد سخّرت عملها الفني ليجسد من خلال تصميمه تلاشي الذكريات، حيث حرصت بعملها على استخدام مواد من الطبيعة واختارت نوع من الأخشاب يُسمى بمصطلحات البناء (المرابيع) وهو عبارة عن قطع خشبية تستخدم في قوالب الأبنية الخرسانية وقد تستخدم القطعة عدة مرات وفي عدة أبنية وأماكن لتوضح من خلال هذه القطع أن لكل قطعة بينهم مسيرة وذكريات خاصة بها من بعض التكسر فيها أو وجود بعض المسامير أو تهشمها نتيجة استخدامها المتعدد فكونتها من خلال شكل هندسي يتوسطها إنارة وبإحجام مختلفة لتعكس خلفها مساحات من الظل على الجدران المحيطة بها ويعتبر هذا الظل هو الذكريات المنسية التي قد تغيب عن ذاكرتنا مع مرور الوقت لتدعو من خلال هذا العمل على أن نعيش يومنا بكل تفاصيله وأن نستمتع بلحظاتنا لأنها قد تختفي في يوم ما دون أن نتذكرها.
فكان لعملها دمج بين التصميم والفن وبأسلوب خاص استمدته من خبرتها العملية لتخرج لنا هذه المفردة الجميلة وترسخ لنا تجلي الذكريات بمنظورها.
* * *
عبدالله عبدالرحمن الخفاجي
تجلي الذكريات مشروع استثمر به معهد مسك للفنون إبداعات وأفكار متفردة جمعت بين لغة التصاميم وبين التفكير الفني لدى المشاركين, حيث تفرد كل فنان ومصمم بهذه الإقامة بهوية خاصة به وأسلوب يفسر مكنونه الإبداعي ليكون كل عمل من هذه الأعمال مشروعاً بحد ذاته ولعل هذه المشاريع تكون نواة لمشاريع كبيرة نرى نجاحاتها في مستقبلنا القريب في ظل تمكين قدرات الشباب الواعد والإيمان من القيادة الحكيمة ممثلة بسيدي خادم الحرمين الشرفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو سيدي ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله بطاقات هؤلاء الشباب وكونهم ثروة هذا المجتمع وركائز مستقبله وهذه المبادرات التي يقدمها معهد مسك للفنون تزيد من ثقة الفنانين المشاركين بأنفسهم وتشجعهم لتقديم المزيد من إبداعهم.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII