اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من المعروف أن الحروب بين الدول لها ثوابت ومتغيرات تتحكم في خياراتها وتضبط مساراتها، ومتغيرات الحرب والمستجدات التي تطرأ عليها لا تطغى على ثوابتها وفنونها والمستويات التي تُخاض داخل حدودها وتفرض المسؤولية قيودها، وقد وصفها المفكر العسكري الألماني كلاوز فيتز: بأنها امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى، باعتبار السياسة تمثِّل الأصل والحرب تتفرع منها، انطلاقاً من أن الهدف السياسي يشكل الغاية بالنسبة للقيادة الأعلى، والحرب تعتبر الوسيلة لتحقيق هذه الغاية، ومن الصعب تحديد الوسيلة في غياب تحديد الغاية بدقة.
وبالطبع فإن السياسة هي مصدر الفكر والعقل المدبر لهذا الفكر والإستراتيجية تمثّل أداة لتطبيق السياسة في المحيط العملي، وتجسيدها على أرض الواقع، والحرب تعد إحدى الوسائل الأساسية لتنفيذ الإستراتيجية التي هي فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف السياسة.
والإستراتيجية العليا للدولة أو الإستراتيجية الشاملة تهدف إلى بلوغ الأهداف التي وضعتها السياسة بما يضمن استخدام الوسائل المتوفرة أفضل استخدام مع ملاحظة أن الوسائل ليست مقصورة على الوسائل العسكرية، بل تعتبر هذه الوسائل شاملة لكل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية وما في حكمها من المجالات التي تتحدد على ضوئها العلاقات المتداخلة والمتكاملة وتلك المعقدة والمتنافرة بين السياسة والإستراتيجية والمجال العام لكل منها.
ومهما تنوعت الأسلحة وتطورت الوسائل والأدوات المستخدمة في الحرب بين قوة عسكرية وأخرى فإن هذه الحرب تحافظ على مفهومها التقليدي وطبيعتها النظامية، كما أن عوامل القتال المتغيرة وأساليب الحرب المتحورة نتيجة لذكاء القادة واستخدام أساليب الخداع والحيل تزيد من فعالية الحرب مع المحافظة على معالمها وعدم تغيير هويتها أو السماح لأطرافها بالتنصل عن مسؤوليتها.
وتنوع الأسلحة والطفرة التقنية التي واكبت هذا التنوع والإجراءات السيبرانية والثورة المعلوماتية وتضافر عوامل القوة العلمية والعسكرية والسياسية والاقتصادية وتسخيرها لخدمة الصراع المسلح، كل ذلك يجري توظيفه والتعامل معه بشكل يتفق مع طبيعة الحرب النظامية وفقاً لمستوياتها الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية دون أن يكون ذلك على حساب التحكم في الوسائل والربط بينها وبين الأهداف أو يُخرج الحرب عن مسارها التقليدي وإطارها النظامي.
ولكل دولة إستراتيجية عسكرية تقوم على أسس ذات مرجعية تعتمد عليها في التخطيط والتنفيذ طبقاً لدستورها السياسي ومذهبها العسكري اللذين على ضوئهما يتم تحديد مصادر الخطر المحتملة وكيفية مواجهتها على جميع الأصعدة في المستويين القريب والبعيد مع الربط بين التقنية والعامل البشري والاستفادة من الحرب الإلكترونية والغوص في أعماقها.
والدولة تحاول جاهدة من خلال إستراتيجيتها العليا أن تصوغ مذهبها العسكري على نحوٍ يجعله يمثِّل تعبيراً صادقاً لوجهة النظر الرسمية لها، وذلك في كل ما له علاقة بالصراع المسلح وكيفية التحضير له وتنفيذه لكي يتحقق لها الاستقرار في السلم والنصر في الحرب.
وخوض الأعمال الحربية يتطلب استخدام مختلف وسائل الصراع المسلح بغية تحقيق الأهداف السياسية بالنسبة للدولة مع تحديد هذه الأهداف من الناحية الإستراتيجية والعسكرية تبعاً للعوامل ذات التأثير المباشر وغير المباشر بالنسبة لطرفي الصراع.
وتأسيساً على ذلك يجري التخطيط السياسي والإستراتيجي من قبل القيادة السياسية لوضع خطة الحرب وبيان أهدافها ومتطلباتها السياسية والعلمية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية التي تحاول الدولة من خلال إنجازها بلورت أهدافها والقيام بعمل كل ما من شأنه ضمان أمنها القومي وفرض سيادتها وإعلاء كلمتها.
وتتأثر الإستراتيجية العليا للدولة بغايتها وسياساتها العامة ومذهبها العسكري، وما تملكه من موارد مادية وأرصدة علمية ومعنوية وأخلاقية، فضلاً عن أن هذه الإستراتيجية لا ينحصر اهتمامها في محيط الصراع المسلح فحسب، بل يتجاوزها إلى كل ما يترتب على هذا الصراع من تبعات ونتائج بما في ذلك النظر إلى ما وراء الحرب، حيث إن التفكير فيما وراء الحرب هو الذي يضع الأساس السليم للتعامل مع الحرب وتقدير الموقف بشأنها، وقد قال المفكر الصيني صن تزو: إن اتخاذ القرار بشن الحرب من أخطر الأمور المتعلقة بالدولة، فالحرب هي أرض الدمار وطريق الفناء والخراب، فيجب الحذر وعدم الاستهانة بأمر الحرب.
ومن هذا المنطلق فإن من ضرورات شن الحرب التفوق بالوسائل وإتقان استخدام هذه الوسائل في ظل وجود عقيدة دينية ودستور سياسي حكيم وبناء اجتماعي سليم ينبثق عنها مذهب عسكري مكتمل الأركان والمكونات وقابل للتطور مع تطور الفكر والسلاح وتقدم الزمن.
والمفاجأة تشكل أحد مبادئ الحرب ومستوياتها المعروفة تتلاءم مع مستويات فن الحرب المألوفة، كما أن المكيدة والخدعة والحيلة من الأساليب المستخدمة في الحروب والقائد الذي يجيدها ويتصف بصفة الدهاء والذكاء يستطيع استغلال الفرص والتكيف الصحيح مع متطلبات المكان وتقلبات الزمان بشكل يمكِّنه من الانتصار على خصمه دون أن يخوض قتال وقد قال صن تزو: الذي يعتبر أول محارب هجين: إن إخضاع العدو دون قتال هو ذروة المهارة. وقال: إذا كنت بعيداً عن العدو فأجعله يصدق أنك قريب.
وليس من شك أن القوة الرادعة المتمثلة في أسلحة التدمير الشامل وبالتحديد السلاح النووي جعلت التفكير في الحرب بين الدول ذات القدرة النووية من الأمور شبه المستحيلة لما قد ينجم عنها من نقل الحرب من مفهومها التقليدي إلى المفهوم النووي الذي لا يبقي ولا يذر.
ويعني ذلك أن السلاح النووي خلق توازناً للنظام السياسي العالمي يعرف بتوازن الردع النووي، الأمر الذي قلل من احتمالية شن الحرب على المستوى التقليدي بفضل نظرية الردع ذات الضوابط الضابطة والروادع الرادعة التي تحول دون الدخول في حرب نووية تفقد أهدافها وتتجاوز أطرافها إلى العالم بأسره على النحو الذي يؤدي إلى الإخلال بالتوازن في الردع ويشعل نزاع نووي عالمي يفضي إلى نتائج غير متوقعة.
وترتيباً على ذلك فإن الأسلحة النووية فرضت على القوى التي تمتلكها الالتزام بمبدأ الردع النووي والنظر إلى الخيار السياسي، بوصفه خيار حتمي وضرورة إستراتيجية مع تجنب أي صراع مسلح تقليدي مباشر يقود إلى مواجهة واسعة تخرج عن حدود السيطرة بما يخل بمفهوم الردع.