د. محمد بن عويض الفايدي
«احرقوا السفن» مقولة شهيرة تُنسب للقائد العسكري «طارق بن زياد» الذي مهد لفتح الأندلس وإقامة الحضارة الإسلامية فيه، ومفهوم قيادي مرتبط بالجراءة في اتخاذ القرار والتضحية بالموارد لتحقيق النصر العاجل وكسب المواقف. فهل التضحية الضخمة بحجم كبير من رأس المال ووضع الأتباع على المحك ممارسة قيادية ناجحة؟
حُسن القيادة مهارة تتعدى بلوغ درجة مقبولة من النضج القيادي الذي يهتم برشد القرار والاستشراف للمستقبل ودقة الاختيار والإمداد والتمويل والمتابعة والمراجعة والتقييم والتقويم المستمر، باعتبارها مجتمعة عناصر تهيئة القائد المحترف الذي أضحى يتعامل مع متغيرات متباينة وتحولات مفاجئة ومشكلات متعددة وتوقفات تقنية مربكة. تستوجب الاعتماد على نتائج دراسات وبحوث وتحليل معلومات، وتخطيط استراتيجي يُسهم في خلق مهنية قيادية ومنهجية إدارية تجعل من ذلك مسلمة حتمية لاتخاذ القرار الرشيد لا تصح القيادة ولا تصلح الإدارة إلا به.
الجدارة في القيادة منهج للاستدامة ومسار لصناعة واتخاذ القرارات الحرجة في الأزمات والمواقف الأكثر تحديًا، ذلك لأن مدخلات القرار في الأزمة تختلف باختلاف درجة خطورتها وحجم اتساعها وتصاعد وتيرتها، والتي تعد على درجة عالية من الحساسية والسرعة والضبابية لا سيما في المزج بين المدخلات والمتغيرات وحساب الفرص والمخاطر بصرامة وبمراعاة كافة الأبعاد، والأخذ في الحسبان كل الظروف والمستجدات لجعل القرار حاسمًا في مرحلة صنعه واتخاذه. إذ تؤسس الاختناقات التي تتعاظم أثناء الأزمات إلى أهمية اختيار القادة الأكفاء لضمان عنصري القوة والأمانة {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26) سورة القصص. ذلك لأن بناءات التنمية المستمرة تصنعها القيادة الواعدة وبمقدار مهارة القيادة يزداد الحظ من نيل القسط الأكبر من معطيات التنمية على مستوى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والكيانات والدول.
إنجازات التنمية فرص ومسارات تخدم أهداف المجتمع وتلبي تطلعاته القائمة على مزيج من البدائل والخيارات، بشكل ينهض بحياة الناس ويوفر لهم سبل العيش وصحة وسلامة البدن والنماء والأمان والاستقرار، وفي الوقت نفسه يسمح بالحفاظ على نصيب أجيال المستقبل من الموارد ضمن منظومة أمان اقتصادي واجتماعي متنامٍ، وإدراك هذه القيمة وبلورتها، يتجسد في قدرة القيادة على إدراك دورها المحوري في تحفيز الناس نحو البناء والتطوير والتكامل، ونبذ الصراعات والكراهية والأحقاد والاحتقان، والعمل على صياغة مقاربات وسبل تعايش مشترك، وميزات تنافسية متجددة باستمرار تستغل الثروات والفرص وتتخطى المخاطر والتحديات بوعي تكاملي يأخذ بزمام المبادرة لتطوير المجتمع في إطار منظومة قيادية واعدة يوجهها قائد ويتفاعل معها أتباع لبلوغ الأهداف وتحقيق النصر بمفهومه العام والخاص.
فـ»إحراق السفن» جاء للخروج من نفق الفشل ووضع الأتباع أمام بديل واحد لا غيره يستوجب من الجميع العمل بكل مخزون الطاقة وشحذ الهمم والتكاتف وتوحيد الصف والكلمة والتصويب نحو الهدف، وجعل الأهداف موضع التنفيذ العملي بعيدًا عن التأويل والتردد والأقوال والأحاديث التي كثيرًا ما تُبدد الطاقات وتُهدر الموارد وتحول دون تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات لاسيما في عالمنا العربي وبلداننا النامية.
الثقافة العربية لها رمزية في القيادة وموروث مؤصل فيه نجاحات وبه إخفاقات محتها الإيجابيات التي جعلت من الحكمة والدهاء العربي سمة قيادية ترجمها العطاء والفتح الإسلامي إلى عطاءات بسطت النماء والأمان والحضارة عبر مراحل ومحطات تاريخية مشرقة يؤصلها التاريخ وتتلمذ من تجاربها الأجيال.
تظل الكفاءات القيادية مطلب لكل أمة وفي كل مجتمع ضمن تصور مطلق خلاصته - من يستحث الهمم ويدفع بالعجلة ويستجمع القوى ليجعل من الحركة دورة عمل جاد وثمرة عطاء مستمر يدفع بالناس نحو العلم والتعلم والعمل والبناء والتنمية للمجتمعات والأوطان -.
اكتشاف الإلهام مرحلة مهمة في النهوض بمهام القيادة فالأمم ينهض بها قادة ملهمون لهم القسط الأكبر من الحكمة وتحمل المسؤولية والطموح والتعاطف والإصغاء إلى الآخرين والتعاطف والتعاون ومد جسور التواصل معهم والعمل بروح الفريق والإقدام والجرأة والمجازفة لحسم المواقف الجسيمة دون تردد، وبتحمل تام لكافة تبعات القرار والآثار المترتبة على اتخاذه.
التمكين القيادي مسؤولية تشاركية ووسيلة فعالة لإشراك الأتباع ومنحهم مساحة مناسبة من السلطات والصلاحيات الإدارية التي تتيح لهم فرصة المشاركة في صنع القرار، وإعطائهم دورًا تشاركيًا يُترجم حكمتهم وخبرتهم وتجاربهم إلى ممارسات واقعية ملموسة في صناعة القرارات وإدارة المشاهد مما يزيد من شعورهم بالقيمة والالتزام تجاه منظومة القرارات والإجراءات والمسؤوليات الناتجة عنها. وأن منحهم الثقة والقدر الكافي من المشاركة الفعلية في صياغة القرارات يجعل الإحساس عندهم ضمنًا بالمسؤولية المباشرة تجاه نتائج تلك القرارات ويؤهلهم ليكونوا قادة جاهزين.
التفويض بنقل السلطة والمسؤولية لمهام أو قرارات معينة من القائد إلى بعض الأتباع الفاعلين من خلال توفير معطيات الرؤى والتوجيه والثقة بالآخرين وتمكينهم من تحقيق هذه الثقة بتطوير ما يتجاوز قدرات وخبرات وتجارب القادة بالاستفادة من القدرات والآراء الفريدة والمتميزة للأتباع، وبناء قدراتهم ورفع كفاءتهم الإنتاجية بالتدريب والخبرات والمهارات الجديدة في إطار ممارسات قيادية توحي وكأن القائد قد قام باستبدال نفسه بهؤلاء الآخرين الذين يمكنهم القيام بنفس الوظيفة والمهمة التي سيقوم بها بنفسه، ومن ثم تمكينهم للمساهمة بأدوار قيادية في مواقع أخرى.
التمتين سمة وممارسة قيادية تنطلق من المسلمة من أن الإنسان لا يتغير عندما يكبر ويتقدم بل تكبر وتتقدم نقاط قوته ونقاط ضعفه معه.
مهارة القيادة أن يحدد القائد بداية ما لا يجب أن يفعله وليس ما يجب عليه فعله وبمقدار معرفة القائد للجوانب من المهمة والوظيفة التي عليه تنفيذها تمامًا ودون تفريط، والجوانب التي عليه أن يتركها للقادرين من الأتباع للقيام بها ليتيح لهم المجال كي يبرزوا مهاراتهم وقدراتهم على الابتكار والتطوير والتغيير والتحسين والإبداع. وهذه المرحلة هي نقطة الالتقاء بين النضج القيادي والإبداع القيادي والتي تكشف عن التمتين وتُمكن من وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتُبدد الضبابية والتخبط والصراع الذي يحدث عند الاختيار والترشيح للمناصب القيادية. وهذا المشهد هو العامل الجوهري الذي أطاح بإمبراطورية الاتحاد السوفيتي عندما اُشتري رئيس المخابرات آن ذاك من مخابرات المحور الغربي وطُلب منه ألا يخون بلده وإنما المطلوب منه فقط أن إذا رُشح أربعة أشخاص لشغل منصب أن يختار الأسوأ من بينهم. وبالتالي مُكن الأدنى وأُبعد الأكفاء وشُغلت المناصب القيادية في الإدارة السوفيتية بأشخاص أقل كفاءة وظلت تتراجع حتى انهار الاتحاد السوفيتي من داخله وتشظى وتجزأ على مشهد من العالم.
الوطن العربي والبلدان النامية تعاني على حد سواء من التحديات القيادية نفسها ومن أبرزها هدر قيمة الوقت الذي هو أهم عناصر نجاح القائد فاستثمار الوقت مهارة قيادية فيما ولمن توجه ساعات الإنجاز فالاستغلال الأمثل للوقت مصدر التميز والعنصر الخفي للمنافسة والتقدم على الآخرين. فالقائد هو من يحدد قيمة الوقت بهدره في حل النزاعات والخلافات ومعالجة المشكلات وتخطي التجاوزات - والذي هو الواقع العربي والنامي - أو يستثمر الوقت في تنمية القدرات ورفع المهارات واكتشاف المواهب ومواطن الإبداع وتقويتها، والمفاضلة المحسوبة بعناية بين تمتين القوي أو تقوية الضعيف، ورفع المهارات أو تنمية المواهب والإبداعات وهي الفيصل القيادي في ذلك. فتقوية الضعيف قد لا تضيف الشيء الكثير في رفع الكفاءة الإنتاجية ونتائجها محدودة في رفع كفاية الأداء. أما تمتين وتعزيز القوي فيُحقق التميز الذي هو العلامة الفارقة لكفاءة القيادة وأداة الحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
التدريب سلوك قيادي يستهدف التغيير في سلوك الإتباع، وللمهارة القيادية دورًا فعال وجوهري في ذلك يكمن بداية في الوقوف على الفوارق بين المعارف والمهارات والمواهب والدوافع والسلوك والعادات والمجبول والمكتسب ثم على ما يجب تثبيته والبناء عليه في شخصية الإنسان وعدم المساس به، وما ينبغي تعديله وتحسينه. فأحيانًا بعض برامج التدريب بدل ما تبني تهدم من حيث لا تشعر وهذا سر ما يتُداول من عدم الاستفادة من برامج التدريب وأنها صورية وهدر للموارد والعائد منها لا يُذكر مقابل ما يُنفق عليها من إمكانات بشرية ومادية. فالعلة أصلاً قيادية قبل أن تكون عيبًا تدريبيًا. وهذا هو سر المُسير في شخصية الإنسان والمُخير فيها. فالتشخيص القيادي الحصيف يسير مع المُسير ويعمل على تقويته، ويُوجه ويُقوم المُخير وما عدا ذلك فسراب يحسبه الظمآنُ ماءً. وهذا المفهوم القيادي الذي ينبغي مراجعة برامج التدريب في إطاره حتى يُحقق أهدافه.
التمتين تحفيز للقوة الداخلية المودعة في الأجساد أصلاً فالقوة المتينة المبهرة عندما تكون من الداخل إلى الخارج لأن عظمة الإنجاز مرتبطة بالطاقة الداخلية أما الطاقة الخارجية فمرهونة بقوة الدعم الخارجي تقوى معه وتضعف معه. وبالتالي تظل في دائرة الضعف في حين أن الطاقة الداخلية دائمًا تكون متجددة ويُولد بعضها بعضا وهي من يحقق المتانة الذي هي أعلى درجات القوة.
«إحراق السفن» يحاكي مفهوم الطاقة الأقوى التي تنبعث من الداخل إلى الخارج وهي الأمتن والأكثر قوة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الآية 58) سورة الذاريات. والمتأمل يجد أن تحقيق الأهداف وبلوغ النصر في مشهد إحراق السفن لم يأت بأمر نادر ولا بمعجزة خارقة بل كان باستثارة القائد لقوة الإرادة المعنوية والقوة العقلية والجسدية للأتباع وبتفجر الطاقات الداخلية ليكتسح بها كل عوامل الوهن والضعف والانهزام والخوف والوجل ويحل محلها تلقائيًا المضي قدمًا بالعزيمة والشجاعة والإقدام والإصرار لتحقيق الأهداف مهما كان حجم وثمن التضحيات ويتحدد الهدف النهائي بدقة متناهية وهو النصر ولا غير النصر شيء أشبه بطريقة - شحذ الهمم - وهذا هو منطلق القيادة ومحورها ومرتكزها الأول والأخير. ومن يعمل على تحفيز الطاقة الداخلية للأتباع يستطيع تمتين مواطن القوة لديهم وتحقيق ما هو أهم وأبلغ وهو تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب والذي يُعد جوهر القيادة وغاية التمتين.
تعتبر المشورة أداة محورية للتواصل مع الآخر وفهم وجهة نظره، والذين يتولون مهام القيادة وهم يدركون الدور الذي عليهم القيام به بداية لتحقيق التواصل ما بين القائد والأتباع لإيمانهم أن المجهود الفكري الجماعي يقود إلى القرارات الأكثر صوابًا، ويؤكد على أن الآراء المتعددة تتفوق على رأي الشخص الواحد الذي قد لا يحيط فكره في الوقت نفسه بكافة الخفايا لجوانب مختلفة ومجالات متعددة لمشاهد متباينة. ويُشعر الأتباع بأنهم على صلة دائمة بمنظومة القيادة في مختلف درجات السلم القيادي ومع المستفيدين كيانات وأشخاص. كما أن في ذلك تطيبًا للنفوس وتأليفًا للقلوب والخلوص إلى موقف مشترك في القرارات الحرجة التي تحتاج لآراء متعددة يمكن اكتشاف الإلهام من خلالها.
** **
- رئيس منتدى المعرفة العربية للدراسات