جانبي فروقة
تمكن العلماء الأمريكيون مؤخرا في مختبرات لورانس ليفرمور الوطني في كاليفورنيا من إنتاج تفاعل اندماج نووي Nuclear Fusion وتعتبر هذه خطوة جبارة هائلة باتجاه الطاقة النظيفة وقد أشاد مدير مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا بالبيت الأبيض، الدكتور أراتا برابهاكار، بالإنجاز باعتباره «معلمًا علميًا» و»أعجوبة هندسية لا تصدق».
قبل خمسمائة عام، كان ثمة اعتقاد سائد في حضارة الأزتك، التي ازدهرت آنذاك في أمريكا الجنوبية، بأنَّ الوقود الذي يغذِّي الشمس وجميعَ القوى المنبعثة منها هو دماء القرابين البشرية. كما عبد الشمس عبر التاريخ السومريون وأطلقوا عليها اسم «أوتو AUTU وعبدها البابليون باسم «شمش SHAMASH» والمصريون باسم «رع RA» و»آمون رع RA-AMON» و»آتوم رع RA- ATUM» أما اليوم، فنحن نعلم أنَّ الشمس وسائر النجوم تستمدُّ طاقتها من تفاعلٍ يُعرف باسم الاندماج النووي. ومنذ زمن والعلماء يحاولون استنساخ الاندماج النووي على كوكب الأرض وكان التحدي الأكبر لتأمين التفاعل الاندماجي هو التوفير المستمر لدرجات حرارة عالية تصل إلى مليون درجة مئوية تحقق الدمج المطلوب ووجد العلماء الحل أخيرا عن طريق البلازما المحترقة والذي اعتبرته وزارة الخارجية الأمريكية علامة فارقة في مسيرة المشروع ويتوقع العلماء الاستخدام التجاري للطاقة الاندماجية خلال عقد من الزمن.
تعتبر الطاقة الاندماجية أنظف وأفضل من الطاقة النووية الانشطارية وهي تولد طاقة حرارية يمكن استعمالها في أشكال أخرى وآلية الاندماج الذري معاكسه لآلية الانشطار الذري حيث أن الانشطاري يقسم الذرة إلى عدة أجزاء أصغر بينما يجمع الاندماجي بين ذرتين أو أكثر لتشكيل ذرة أكبر والوقود المستعمل في الانشطاري هو يوارنيوم وبلوتونيوم (وهي عناصر نادرة ومكلفة جدا) فيما يستخدم الهيدروجين في التفاعل الاندماجي وهو متوافر بشكل كبير وقليل التكلفة كما ينتج عن التفاعل الانشطاري نفايات نووية خطيرة بينما ينتج عن الاندماجي غاز الهيليوم وهو من الغازات النبيلة والطاقة الناتجة عن التفاعل الانشطاري يصل إلى مليون ضعف المصادر الأخرى بينما الاندماجي تزيد قوته عن الانشطاري بـ 3 أو 4 أضعاف.
هناك اليوم 33 دولة في العالم تستعمل الطاقة النووية الانشطارية في إنتاج الكهرباء وتساهم الطاقة النووية اليوم في 10 في المائة من طاقة إنتاج الكهرباء في العالم وبوجود طاقة الاندماج النووي هناك إمكانية كبيرة للتحول للطاقة النظيفة والتي لا تولد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون كما يحدث في محطات توليد الكهرباء بالوقود الأحفوري. ستمكن هذه الطاقة النظيفة غير المحدودة من تطوير جميع أنواع التقنيات بشكل أسرع وأرخص وأنظف وستساهم كحل أساسي لمشاكل تغير المناخ وتخفف من انقطاع التيار الكهربائي وتشغيل محطات معالجة المياه وتساعد على تطوير حلول أفضل للتخلص من القمامة وتدويرها كما يمكن أن تتقدم تكنولوجيا البطاريات وتتطور صناعة السيارات الكهربائية والمركبات وتصبح المنازل نظيفة باستخدامها طاقة نظيفة.
وعلى سبيل المثال تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية 100 مفاعل نووي انشطاري وتمتلك فرنسا 58 مفاعلا وروسيا 33 وكوريا الجنوبية 23 والصين 17 مفاعلا وفي الشرق الأوسط تعمل مصر على إنشاء 3 مفاعلات روسية والسعودية تطمح لبناء مفاعلين خلال الـ 20 عاما القادمة والإمارات بدأت ببناء 4 مفاعلات تجارية وتم استكمال بناء أول مفاعل قبل عامين. وإيران لديها مفاعل للطاقة النووية وتخطط لإنشاء اثنين آخرين ولديها برنامج لتخصيب اليورانيوم . واليوم في ظل الحرب الروسية - الأوكرانية تتجه الأنظار للمفاعلات النووية التي ترزح تحت خطر الحرب ولا سيما محطة زابوروجيا.
حاليا كل مصانع الصلب والفحم في أمريكا وأوروبا تعمل على الغاز والفحم وفي الدول الغنية أكثر من 75 في المائة من الطاقة المستهلكة ما زالت تأتي من الوقود الأحفوري والطاقة الشمسية وطاقة الرياح تشكل أقل من 3 في المائة، وتحاول الدول الغنية تعطيل عجلة التنمية في الدول الفقيرة بتعطيل مشاريع استخراج النفط والغاز فيها بحجة الحفاظ على البيئة وتشير الدراسات أن المواطن الواحد في الدول المتقدمة الغنية يستهلك من الطاقة الناتجة عن الوقود الأحفوري ما يعادل استهلاك 23 مواطن في الدول الإفريقية.
ما تستهلكه القارة الإفريقية (بعدد سكانها الذي يصل إلى مليار نسمة) من الطاقة المولدة من الوقود الأحفوري يساوي اليوم استهلاك اسبانيا لوحدها بعدد سكانها البالغ 47 مليون نسمة فقط وتعتبر قارة أفريقيا لوحدها مسؤولة فقط عن 3 في المائة من انبعاثات الكربون في العالم بالمقابل فإن الولايات المتحدة الأمريكية مع كندا واليابان ودول أوربا الغربية مسؤولين عن أكثر من 50 في المائة من الانبعاثات الكربونية رغم أن عدد السكان الذي يشكل فقط 12 في المائة من إجمالي سكان العالم وحسب هيئة الطاقة الدولية فإن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لو طبقت كل سياسات المناخ المتفق عليها فستوفر فقط ثلث احتياجاتهم من الطاقة على سنة 2050 م، قال « YEMI OSINBAJO ييمي أوسينبايو « نائب الرئيس النيجيري مؤخرا في المحافل الدولية «إن أكثر من 85 مليون نيجيري يعيشون اليوم بدون كهرباء رغم ان نيجيريا ثاني أكبر منتج للنفط في العالم وفي الاحتياطات الأضخم في العالم من الغاز الطبيعي ويجب أن نغلق فجوة عدم المساواة في الطاقة العالمية». وقال أيضا إن تعويذة مصادر الطاقة المتجددة فقط مدفوعة بمخاوف غير مبررة من انبعاثات القارة الأفريقية المستقبلية. والغرب لا يدعم ولا يمول مشاريع الغاز والنفط رغم تحقيقها الفوري لفوائد جوهرية حيث لا يزال أغلب الأفارقة يستخدمون الفحم والخشب للطهي وهذا سيؤدي لإزالة الغابات وانبعاثات الكربون التي يمكن تجنبها ولخص نائب الرئيس النيجيري على أنه لا يمكن قبول سياسة المناخ التراجعية كظلم موجه ضد الشعوب الإفريقية ويبدو أن بارقة الطاقة النظيفة من الاندماج النووي مع الطاقة المتجددة من الرياح والشمس لا بد من أن تبلور سياسة عالمية جديدة عادلة تنهض بالأمم بتوفير الطاقة اللازمة لكل بلد.
إن الطاقة النظيفة الاندماجية ستزيح خطر الطاقة النووية الانشطارية والصراعات الدولية حولها ويبدو أن سياسة الاندماج دائما أفضل من التقسيم والانشطار حتى في الذرات.
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية