كان الوقت صباحاً، الشمس مشرقة، وبعض هواء لطيف يداعب الوجوه، وأنا اجتاز بوابة الفتوح، إحدى بوابات القاهرة القديمة، يقول المؤرخون إن الجيوش كانت تخرج منها للفتوحات، ثم تعود وتدخل القاهرة وهي منتصرة من باب النصر، استقبلني على اليسار جامع الحاكم، الكبير العتيق، بمآذنه المبخرية الشكل، بينما كان مصور فوتوغرافي جوال يسجل ذكرى لحظية لشاب ورفيقته عند بابه الكبير المغلق، وهما يبتسمان ابتسامة مصطنعة. وقفت قليلاً أتأمل واجهته ومدخله البارز وبابه الكبير المغلق، والشباب المتناثر على الرصف الحجري في الفراغ الي يتصر واجهته، تساءلت كيف اتخذته الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م) مقرًا لجنودها واستخدمت مئذنتيه كأبراج للمراقبة، وكيف استخدم رواق قبلته كأول متحف إسلامي بالقاهرة أطلق عليه دار الآثار العربية مطلق القرن العشرين.
بدا شارع المعز من هذه الناحية هادئاً، خالياً من المارّة باستثناء ثنائيات شبابية تتسكح في طرقاته البازلتية الصلبة، وقليل من موظفي الآثار وعمال النظافة وبعض رجال الشرطة هنا وهناك. شتَّان بين حال هذا الشارع عند في المساء وبالليل وحاله في الصباح، فارقٌ كبير، كالفارق بين اليقظة والنوم والحركة والسكون، كثير ما يسلبنا الزحامُ والضجيج والصخب الكثيرَ من متع الحياة، كما يفقدنا القلق والسعي على لقمة العيش متعة تذوق لقمة العيش.
تأملت الشارع النظيف الهادئ كأني لم أره من قبل، كانت أبواب الحوانيت مغلقة، القليل منها فقط قد بكَّر وفتح أبوابه، قابلتني مجموعة من السائحين الأجانب يصحبهم مرشد سياحي يقفون أمام أحد المتاجر التي تبيع منتجات تراثية ومستنسخات أثرية قديمة، في زيارة مبكرة، ومجموعة أخرى أمام مسجد قديم انهمك البعض منهم في الاستماع إلى ما يقوله المرشد والبعض الآخر في تصوير مظاهر الجمال فيما يرى.
كل شيء في هذا الشارع يتنفس تاريخًا، وينطق تاريخًا، تطاردك رائحة التاريخ وتأسر نظرك وفكرك أينما وقع بصرك أو حملتك قدماك، تطالعك صور الماضي وراءَك وأمامك، وعن يمينك وعن شمالك، فهذه مساجد للصلاة والعبادة، وتلك مدارس للتعليم ونشر العلم، وهنا أسبلة لسقاية المارَّة، وكتاتيب لتعليم الصغار القرآن والكتابة والقراءة، وهناك زوايا لتعليم الأمور الدينية وبعض الأمور الأدبية، و»بيمارستانات» أو مستشفيات لعلاج المرضى.. وغيرها الكثير.
وقفت منبهراً بمسجد وسبيل سليمان الأغا السلحدار، والسلحدار أي المسئول عن السلاح، وكان ذلك في عهد محمد على باشا، بمأذنته المدببة الصاعدة إلى السماء والتي تأخذ شكل قلم الرصاص على عادة المآذن العثمانية في ذلك الزمان، وتتبعت السير قليلاً لأقف مشدوهاً أمام جامع السلطان المؤيد بمأذنته الرشيقة، والذي قام في موقع سجن قديم كان معروفاً باسم «خزانة شمائل»، سُجن فيه المؤيد شيخ مدة من الزمن لأسباب اختلف حولها المؤرخون وقت أن كان أميراً، وعانى فيه الكثير من التعذيب والحبسة والوحدة والظلام، فنذر إلى الله إن نجا من محنته وخرج من السجن أن يبني مكانه مسجداً، فلما وُلي ملك مصر وفي بنذره وشرع في بناء هذا المسجد العجيب ذو الواجهة الكبيرة الجميلة.
حملتني قدماي، مسلوباً، إلى حيث مجموعة السلطان الظاهر برقوق، التي تضم مسجدًا ومدرسة وخانقاه (مكان ينقطع فيه المتصوف للعبادة، وتجمع في تخطيطها بين المسجد والمدرسة والسكن) وقبة ضريحية، لأقف عندها متأملاً واجهتها الشاهقة، والمدخل الرئيسي الذي يعلوه شريط كتابي بالخط الثلث المملوكي نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة والخناقاه مولانا السلطان الملك الظاهر سيف الدنيا والدين أبو سعيد برقوق سلطان الإسلام والمسلمين نصرة الغزاة والمجاهدين حامي حوزة الدين ذخر الأيتام والمساكين كنز الطالبين صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية عز نصره».
وما كدت استفيق من براعة مجموعة السلطان الظاهر برقوق حتى تلقتني مجموعة السلطان قلاوون المهيبة، التي تضم مسجدًا ومدرسة وقبة ضريحية وبيمارستان لعلاج المرضى، لأقع في اعجاب جديد وانبهار شديد، والسلطان المنصور سيف الدين قلاوون أحد أبرز سلاطين عهد المماليك البحرية، الذي أسس لأسرة حكمت مصر والشام وغيرها أكثر من قرن من الزمان. ويصف البعض قبة المنصور قلاوون في هذه المجموعة بأنها ثاني أجمل ضريح في العالم بعد ضريح تاج محل في الهند.
محاولاً رفع قدماي من تسمرها اللاغرادي أمام مجموعة السلطان قلاوون، ومعاودة السير، حتى تتابعت على العين جماليات جامع الأقمر الأنيق بواجهته الجميلة ومأذنته القصيرة، وسبيل محمد علي المميز، وقصر الأمير بشتاك، ومدرسة الظاهر بيبرس، ومدرسة وقبة نجم الدين أيوب، وسبيل وكتاب خسرو باشا. وتذكرت قول الشاعر العربي:
«تكاثرت الظباء على خراشٍ
فما يدري خراشٌ ما يصيد»
«في رياضٍ نضَّر الله ثراها
وسقى من كرم النيل رباها»
«ومشى الفجرُ إليها فطواها
بين أفراح الضياء الغابر».
في كل زاوية من الشارع يحدثك التاريخ، وتأسرك العمارة الإسلامية بجلالها، ومهابتها، وفقهها، وعبقريتها في البناء والهندسة، كما تستهويك ألوان الفنون والزخرفة النباتية والهندسية في الأشرطة الكتابية الأنيقة المحفورة بعناية والتي ازدانت بها الواجهات وتمنطقت، والأبواب الخشبية المصفّحة بالنحاس والبرونز لحمايتها، والمزخرفة بأشكال هندسية ونباتية رائعة وأنيقة، والنوافذ أو المشربيات الخشبية والشبابيك الجصية الملونة البديعة. ولا ينازع عبق التاريخ في هذا المكان إلا المتاجر التي تبيع منتجات الحرف التقليدية والمستنسخات التراثية، التي تصطف على جانبي الشارع الممتد؛ محافظةً على الأجواء التاريخية التي يعيشها الزائر للمكان ولتضيف سحرًا إلى سحر الشارع.
هكذا سرت مسلوباً، وكأنني في حلم، حتى حملتني قدماي إلى حيث مدرسة الأشرف برسباي بهندسة بنائها، وواجهتها الحجرية المهيبة المزخرفة، وواجهتها العالية البارزة، ومئذنتها السامقة الممشوقة القوام التي تتميز بجمالها وهندسة بنائها، والزخارف الرخامية والشبابيك الجصية المفرغة المحلاة بالزجاج الملون، والتي بلغت درجة عالية من الدقة والإتقان والجمال.
حتى إذا وليتها ظهري مضطراً، طالعتني في الجهة الأخرى من الطريق بهيبتها وعلوها وشموخها مجموعة السلطان الغوري، التي تضم منشآت بنيت على جهتين متقابلتين بينهما ممر يعلوه سقف خشبي، يقع بإحدى الجهتين مسجداً ومدرسة كانت تُدرَّس بها العلوم الشرعية، بينما يقابلها في الجهة الأخرى القبة الضريحية وسبيل يعلوه كتَّاب وخانقاه للصوفيين ومنزل ومقعد، فيما اندثر حمام أثري كان يجاور تلك الأبنية. تركت مجموعة السلطان الغوري، الذي أنفق عليها الكثير من ميزانية الدولة، ولم ينعم بها في حياته فقد قُتل تحت سنابك الخيل في موقعة مرج دابق التي درات بين الماليك والعثمانيين قرب حلب في سوريا عام 1516م، ولا يُعرف مكان دفنه، أو أين ذهبت جثته، وقيل إن أحد ضباطه قام بقطع رأسه ودفنها حتى لا يتعرف عليها العثمانيون فيتشفون فيها. هكذا التاريخ يوم لك ويوم عليك، يوم تتذوق فيه طعم الحلاوة والعسل ويوم تتجرع فيه كأس المرارة والهوان.. لا يهم أيهما كان البداية وأيهما كان الختام «وتلك الأيام نداولها بين الناس».
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم