كان همداني الجزيرة العربية، وأديبها حمد بن محمد الجاسر شرياناً دافعاً من شرايين النهضة السعودية في العصر الحديث عمل وبرز في قطاع التعليم والقضاء والاجتماع، وأبدع أيما إبداع في قطاع الصحافة والنشر المتمثل في مجلة (اليمامة) وذلك عام 1952م، ثم صحيفة (الرياض) عام 1976م، ثم مجلة (العرب).
والشيخ حمد الجاسر عليه رحمه الله له صلة بالكتاب حلاً وترحالاً فهو صديق طريقه، ومؤنس دربه، والحديث اليوم مقصور عن كتاب يصف إحدى - رحلات الشيخ وهي رحلاته لسراة الحجاز، وقد وسمه بالعنوان التالي:
(في سراة غامد وزهران نصوص.. مشاهدات.. انطباعات) وكانت رحلته لها لزيارة أماكنها الجغرافية، وليطرق مواضعها التاريخية، ويحقق أصول أنسابها، وجذور قبائلها، يقول - رحمه الله - في مقدمته الموجزة للكتاب موضحاً وجهته فيه: (فسراة الحجاز التي منها هذا الجزء الذي سعدت بزيارته تكون جزءاً كبيراً من بلادنا تسكنه قبائل من العرب الأقحاح منذ عهد بعيد جداً لهم عاداتهم وتقاليدهم العربية الأصيلة، وبلادهم بلاد بكر في كل ما يتعلق بها، ولهذا فليس في مستطاع باحث مهما أوتي من القدرة أن يفي أو أن يقارب الوفاء، ليقدم للقراء صورة كاملة واضحة، حسبي أني وضعت لبنة في أساس بناء هيكل ضخم يجب أن يتعاون في بنائه مثقفو هذه الجهة الكريمة وما أكثرهم.
هذا ويقع الكتاب في خمسمائة وصفحة واحدة من قطع الكتب الكبيرة، وهو مجلد بإتقان ويغلب عليه صبغة الجمال، ولأن هناك زمرة من الباحثين أول ما تبدأ به حين النظر في الكتاب هو الفهارس، فهذه القراءة حاذية حذوهم، وسائرة سيرهم يحوي الكتاب متنه العلمي المفصل ثم يليه الاستدراكات والأخطاء وتصويبها وهي شاملة جامعة دقيقة متينة وهي تنبئك بدقة الشيخ، وشدة تقصيه، وحرصه على تتبع الحقيقة العلمية الصحيحة بكل جرأة وثقة بالنفس في تجاوز الخطأ وثلم النقص والعودة إلى الصواب، فالعلم لا يناله مستح ولا متكبر، ثم يتلو التصويبات فهارس مفصلة تفصيلاً دقيقاً وهي التالية:
1 - الموضوعات العامة.
2 - المواضع.
3 - القبائل وفروعها.
4 - الأعلام (الرجال والنساء).
5 - النبات.
6 - المصادر.
ويهتم الباحثون المؤصلون بتضمين كتبهم وأبحاثهم الفهارس كحال الشيخ وحرصه عليها، عليه وابل الغفران، لما فيها من تسهيل في التقاط المعلومة، ويسر وسهولة في الوصول إلى الفائدة.
والناظر في الكتاب يرى الشيخ طاف معظم مواضع ومنازل جبال السراة الممتدة من الطائف شمالاً إلى بلاد اليمن جنوباً، وأكدها بنفسه ووثقها بما سطره الشعراء في أشعارهم ومعلقاتهم وخير مثال يدلي به لك الشيخ قوله: (بلغنا وادياً يدعى الحشرج، ولم أر لهذا الوادي ذكراً فيما بين يدى من الكتب، وإن كان المتقدمون ذكروا موضعاً بهذا الاسم، ولكنه بعيد عن هذا المكان،.....
ذكرت ما جاء في كتاب «المناسك» من شعر رجل من طيء:
قالت بعيش أخي ونعمة والدي
لا نبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت
فعلمت أن يمنيها لم تلجج
فَلَثِمتُ فاها آخذا بِقُرُونِها
شُرب النَّزِيفَ بِبَرد ماء الحَشْرَج
فتسورت أنا وأخي الأستاذ سعيد لكننا لم نجد في البركة ماء طيباً، فقلت لرجل كان واقفا اسقنا، فأشار إلى القهوة العربية... فقلت له: نحن نريد أن نشرب من ماء البئر لننظر هل الشاعر صادقاً في وصفه لهذا الماء بالبرودة...) والمملكة العربية السعودية بلاد شاسعة مترامية الأطراف، والسؤال مدل بنفسه عن سبب اختيار الشيخ لجبال السراة الممتدة من الطائف شمالاً إلى بلاد اليمن جنوباً لتكون محور حديثه في هذا الكتاب الجليل الشأن، والاجابة تتضمنها الأسباب التالية:
- جمال هذه المنطقة وخصوبتها وروعة جوها.
- سكانها في العصر الحديث هم نفس سكانها منذ العصر القديم.
- قرب تقاليد وعادات أهل السراة من تقاليد وعادات القبائل العربية القديمة، فيما يفسر حرص العلماء اللغويين في الأزمان الماضية على أخذ اللغة العربية وتلقفها من أفواه أهل السروات ودليل ذلك قول العالم اللغوي أبي عمرو بن العلاء:
(أفصح الناس أهل السروات، وهنا يقول الشيخ عليه وابل الرحمات: (سل عن الرفيق قبل الطريق، كنت شديد الرغبة في زيارة جبال السراة ذلك أن هذه الجهة، فضلاً عن كونها جزءاً من بلادنا التي يجب أن نعرف كل شيء عنها، فهي تتصف بصفات ترغب المرء بمشاهدتها ..... والكتاب غني ثري حافل بالاستطرادات وكثرة المعلومات ليقشع غبار الغمة عن متلقي أدبه، ودارسي كتابه، كما يحفل بالأبيات الشعرية المنتقاة بحس ومهارة وهي منبئة عن ذائقة الشيخ ومدى تلذذه بالشعر العربي القديم وحرصه عليه، ومن جميل اختياراته قول الشاعر كعب الأشقري الدوسي في مدح المهلب وولده.
براك الله -حين براك- بحراً
وفجّر منك أنهاراً غزارا
بنوك السابقون إلى المعالي
إذا ما أعظم الناس الخطارا
كأنّهم نجوم حول بدر
دراري تكمّل فاستدارا
ملوك ينزلون بكل ثغر...
إذا ما الهام يوم الرّوع طارا
ولم يهمل الشيخ الأمثال السائرة، والأقوال الشاردة، فقد حظيت باهتمامه لما لها من أهمية قصوى في تاريخ القبائل، فكان يذكر المثل وأصلة وكيف جاء، ولا يفوته إن كانت له قصة أن يعرج عليها اثراء وإقناعاً وطرافة للكتاب.
وتقصى الشيخ في حديثه وأحاط علماً بما قدره الله عليه حتى نباتات جبال السراة أشبعها بحثاً وطرقاً بالرجوع إلى أمهات وأصول الكتب حيث قال: (أعرض للقارئ بعض أسماء أشجار السراة ونباتاتها الأخرى، وأورد تحليتها نقلا عن المؤلفات القديمة، وقد أبدأ وصف ما شاهدت منها، ثم أورد كلام المتقدمين وجل النقول عن أشهر علماء النبات وأبعدهم صيتا.. أبي حنيفة الدينوري...)
وعرف الشيخ بسلامة الصدر ونقاوة السريرة من ذلك طرحه أفكاراً بديعة تكتب فيها كتب وتؤلف فيها مؤلفات وهذا الجانب متمثل في قوله: حبذا لو تصدى أحد أبناء السراة لوضع معجم يحوي جميع أسماء نباتها محليا موصوفاً، ولو أمكن أن يكون مصوراً لكان في هذا العمل خدمة جلية للباحثين في اللغة ولعلماء النبات، ولهذه البلاد التي لا تزال أكثر جوانب الحياة فيها بحاجة إلى الدراسة والبحث.
والأمانة العلمية وحب الحقيقة والمعلومة الصحيحة هي هاجس الشيخ في الكتاب من مبدأه إلى منتهاه كيف لا وهو يطرق جانبا من أهم جوانب قبيلتي غامد وزهران وهو أصلهما ونسبهما، وفي آخر الكتاب صحح خطأ وقع فيه عالم كبير جداً بقامة ابن خلدون فالشيخ - عليه وابل الغفران - لا يأنف من قول الحق والحقيقة بغض النظر عن المخطئ فهو يبين الخطأ ويعزر قوله بالأدلة كما فعل في آخر الكتاب مع عالم الاجتماع والتاريخ الكبير - ابن خلدون أدلى بقول وضمنه في كتابه التحفة (العبر) وأثناء قراءتي كنت الحظ ذلك الكم الزاخر الهائل من معلومات الشيخ الثرة وهي تصويبات عزيزة واستطرادات مفيدة ومن هذا الزخم المتدفق عنت أمور كثيرة، يلمحها قارئ الكتاب أو الناظر في فهارسه بتمعن ودقة ومنها على سبيل المثل لا الحصر حديثه الطويل المتشعب عن تاريخ ونسب وجغرافيا وقبائل وأصول غامد، وزهران ورسمه لأصلهما الشجري بكل دقة وتسلسل وترتيب وهي تنبيك عن عبقرية الشيخ وقدراته العقلية العالية، وفي الكتاب تحدث الشيخ حمد عن مراجعه التي اعتمد عليها في حديثه البليغ عن أصول كل من قبيلتي غامد وزهران وعلماء برزوا من قبيلة الأزد وزهران، ثم سبب تسمية غامد بهذا الاسم المأخوذ من غمد السيف، كما عرج على أهم فروع قبيلتي زهران وغامد وأبرز الشعراء الذين ولدوا في أحضان هاتين القبيلتين فدقت كل من غامد وزهران الطبل وأرقصت الخيل وبين أثر قبائل الأزد ومنهم غامد وزهران على الفتوحات الإسلامية، كما كانت لهم مواقف في إشعال نار العصبية والحروب الدامية في خراسان وألمح الشيخ إلى أمر مهم جداً يستفيد منه علماء الآثار وهو خلو المنطقة من الآثار التاريخية فيقول: لم نشهد في جميع الأمكنة التي مررنا بها، أو قربنا منها شيئاً من الآثار لا كتابة ولا صوراً ولا غيرهما، وهذا مما يبحث على الاستغراب بالنسبة لبلاد متصلة بالجزء الجنوبي من الجزيرة، وهو بلد ذو حضارة لا تزال آثارها بارزة وفي إزاء حديثه عن سراة غامد وزهران أثنى على مؤلفات الأستاذ فؤاد حمزة التاريخية، كما استهل الحديث عن نسب قبيلتي غامد وزهران بإرهاصة في النسب فريدة تطرق فيها إلى أمور جمه منها:
الحديث عن هشام ابن الكلبي وأبيه محمد بن السائب، كما تطرق لكتاب (جمهرة النسب) وأوضح عناية المتقدمين به وأشار إلى جهود الهمداني في تدوين وتوثيق أنساب أهل اليمن، ولم ينس في كتبه الثلاثة (صفة جزيرة العرب، الاكليل، الجوهرتين) ثم بين أسباب اختلاط الأنساب وسبب التداخل بين قبيلتي عدوان وزهران في النسب وكذلك حال غيرهما من القبائل كذلك نبه الكتاب على أمور مهمة يعسر حصرها ولم شملها ، إلا أني أختم الحديث عن موضوعات الشيخ المنتقاة بتنبيه الشيخ ودلالته الباحثين والمؤرخين للمواقع التي تقع جنوب الكعبة.
وبعد:
فالشيخ حمد الجاسر رائد التنوير الأول في قلب الجزيرة العربية، قادة الطموح فكان قمة من قمم التاريخ وجللته الإرادة فكان سفرا من أسفار الصحراء، هامته في التسعين وهمته في العشرين رافقه العفو والغفران.
- تأليف/ الشيخ العالم العلامة حمد الجاسر - يرحمه الله -
** **
قراءة/ حنان بنت عبد العزيز آل سيف - بنت الأعشى-
عنوان التواصل hanan.alsaif@hotmail.com