عبد الله سليمان الطليان
انفعال.. توتر.. هستيريا.. حضور كثيف، إنها كرة القدم عشق الملايين حول العالم، ولكن لماذا هذا في هذه اللعبة بالذات؟ لماذا لا يوجد في لعبة كرة السلة أو الطائرة أو اليد أو الركبي هذا النهم الجارف لتلك اللعبة؟ ما الذي يجعلنا ننجذب وبقوة وفي حماس لصراع حول كرة (مليئة بالهواء) تقاذفها الأرجل في الملعب بين فريقين؟ هل نعتبرها متعة ترويحية للنفس؟ فلماذا يحصل الانفعال والشد العصبي الذي يحولها أحياناً إلى لعبة ذات سلوك عدواني عبر المشاكل والشغب الجماهيري.
يحكي الكاتب إدوارد غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» أن سمعة كرة القدم في القرون الوسطى كانت سيئة للغاية، خصوصا في إنجلترا حيث لم تكن لملعب كرة القدم أبعاد محددة، ولا للمباريات زمن محدد، فقد كان يتراكض خلف الكرة إياها عدد كبير جدا بين قريتين لساعات أو أيام، وكانت اللعبة مزيجا من الريكبي وكرة القدم الحالية، ولم تكن سوى لعبة همجية يتسيدها الرعاع والمجرمون، بسببها يموت الناس وترتكب الجرائم، ما جعل الملك إدوارد الثالث يمنعها ويجرمها بمرسوم رسمي.
كان الشغب في الملاعب يتم بين اللاعبين أنفسهم بل كان إجراماً في ذلك الوقت. لهذا، فملوك فرنسا واسكتلندا وكنائس أوروبا وقفوا ضد اللعبة، وبقي الحال على حاله تلك، إلى أن جاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعدها بدأت كرة القدم تتقدم رويدا رويدا صوب التنظيم والانضباط لينتهي عصر «شغب» اللاعبين، فاللعبة التي شهدت بداياتها على أيام الفراعنة وقدماء الصينيين ومورست في إيطاليا إلى الحد الذي أصبح معه الفيلسوف الشهير نيكولا ماكيافيلي لاعباً ممارساً والفنان والعالم ليوناردو دافنشي مشجعا نشيطا، أصبحت لعبة محكومة بقوانين متعارف عليها أمميا.
في كتابه (مباراة كرة القدم) قدم المؤلف الفرنسي كريستيان برومبيرجي الباحث في الإثنوغرافيا، أهم الأفكار الأساسية التي ترتبط بمباريات كرة القدم:
1- نكوص الجماعة: من خلال بحوث (تأثير الجماعة) لدى فرويد وآخرين في سيكولوجية الجماهير، يتضح أن الفرد يصير أقل تعقلا وسط الجماعة، وقد يُقدم على أفعال لا يقدر على الإقدام عليها لوحده.
يعترض الباحث كريستيان على هذا الطرح حيث يعتبر أن الملعب، من الأماكن النادرة في المجتمع الحديث، التي تعيد ولادة المجتمع بكل تناقضاته وتفاوتاته، ويبرز هذا من خلال تباين أثمنة كل منطقة من المدرجات. فضلا عن ذلك، ينتقد جمهور المنعرجات (المدرجات وراء المرمى وهي غالبا مُحتكَرة من «الألتراس» ما يصفونه «برودة» باقي الجماهير في تشجيع الفريق. وهذا يعطينا تصور أن جماهير كرة القدم ليست جماعة متجانسة.
2- عودة للقبلية: يرى بعض الباحثين أن القيام بالتشجيع يحيى السلوكيات الرجعية البربرية وهذا يتعارض مع (سيكولوجية الجماعة) يرفض كريستيان برومبيرجي هذه الفكرة «الاختزالية»، حيث أكد أن القبيلة تُعرّف أصلا بالانتماء إلى سلف وأصل واحد، بينما اختيار الانتماء لفصيل مشجع، يخضع لأهواء شخصية، ولا يدوم غالبا طيلة حياة المشجع.
3- لعبة الطبقة الكادحة: ساهمت كرة القدم في الرفع من مستوى الفقراء والكادحين وأوصلتهم إلى سماء النجومية وعالم الثراء، يحتج برومبيرجي على أن كرة القدم تقوم على الطبقية، مستشهدا بالأبحاث الميدانية التي أجراها في كل من نابولي وتورينو ومارسيليا، والتي تؤكد أن التركيبة الاجتماعية للمناصرين تتميز بعدم التجانس.
ويضيف كذلك أن اختيار رياضة دون الأخرى، يخضع لرؤية الشخص للحياة، حيث تتميز بعض الرياضات دون الأخرى بالعنف، وأخرى بالمهارة والتركيز، وأخرى بالمهارات الرقمية.
الأكثر من ذلك، يعتبر الباحث في الإثنوغرافيا، أن تعدد وجهات النظر حول تسيير الفرق وطرق اللعب واختيارات المدرب، يعكس انتماء المناصرين لشرائح اجتماعية مختلفة من الناحية السوسيوثقافية، وهذا ما يساهم في شهرة الأندية ونجاح اللعبة.
4- سبب شهرة اللعبة: لقد خرجت الآلاف من الناس من براثن الفقر، وتحققت أسطورة فوز الضعيف على القوي، وأحيت المشاعر الوطنية.
يختصر كرسيتيان برومبيرجي سبب عالمية اللعبة وشهرتها فيما يلي:
« البساطة: يمكن ممارستها في كل الأمكنة؛ الأزقة، الساحات، البحر، وتكمن بساطتها ايضاً كرة القدم في أنها تمارس بوسائل بسيطة وأحيانا بدائية، حيث يكفي التوفر على كرة أو ما يعادلها، ويمكن أن تلعبها حتى حافي القدمين على عكس العديد من الرياضات التي تتطلب ملابس ووسائل حماية خاصتين
« قوانين ثابتة وسلسة: أن قوانين كرة القدم تتميز بالثبات، مع بعض التعديلات الطفيفة التي تحدثها الفيفا من حين لآخر. بالإضافة إلى ذلك، فهي لا تحدد منطقة محظورة، على عكس رياضة أخرى ككرة اليد وكرة السلة، مما يسمح بنقل الكرة بحرية في كل أجزاء الملعب.
« تجسيد لدراما الحياة وحلاوتها: في مباراة كرة القدم فقط، نعيش كل مشاعر الحياة المتباينة: نخاف، نتحمس، نتوتر، ننتشي.
هذه هي حقيقة كرة القدم التي يعشقها الملايين على امتداد تاريخها من وجهة نظر اجتماعية ونفسية.
* (لألتراس أو الأولتراس) هي كلمة لاتينية تعني المتطرفين، وتظهر بصورة مجموعات مشجعي الفرق الرياضية والمعروفة بانتمائها وولائها الشديد لفرقها.