ندى بنت محمد النبهان
عندما كنت أجمعُ المصطلحاتِ الطبيَّة من كتاب (الطب النَّبوي) للسُّيوطيّ (ت911هـ)؛ لأصنّفها تبعًا للحقول المفهوميَّة، استوقفتني كلمة غريبة أثناء القراءة والبحث، وهي: (الوحشي) التي ذكرها السُّيوطي في موضعٍ واحدٍ من كتابه في سياق حديثه عن وصف مرض (عِرْق النَّسَا)، بقوله: «... وهذا العرقُ يمتدُّ من مَفْصلِ الوركِ، وينتهي إلى آخرِ القَدمِ وراء الكعبِ مِنَ الجانبِ الوحشيّ فيما بين عظم السَّاقِ والوتر» (الطب النبوي: 353)، فاستغربت منها حقيقةً ولم أفهمها، وشعرت أنَّها غير ضروريَّة، ولا تخدم بحثي، فتركتها وأكملت رحلة البحث غير مهتمَّةٍ بها.
ولكن بعد فترة من البحث، ومن خلال تتبُّعي لأعضاء جسم الإنسان وجدتُ أنَّ السُّيوطيَّ كان يفصّل في مسألة (عروق جسم الإنسان) بدءًا من الرَّأس وحتَّى القدمين، ويذكر أعدادها، ويشرح بعضها، كما لحظتُ أنَّ مسمَّياتها غريبة نوعًا ما، فكنتُ أعودُ إلى المعجمات اللُّغَويَّة والطّبيَّة؛ لأعرف ماهيَّتَها، ومواقعها في جسم الإنسان؛ حتَّى أتمكَّنَ من بناء تشجيراتٍ دلاليَّةٍ دقيقةٍ ذات تفريعات صحيحة، فتبيَّن لي أنَّ الثَّعالبيَّ (ت429ه) كان يعرّفها في كتابه ويحدّد مواقعها، فيقول: هو عرقُ كذا، ويقع في الجانب الوحشي، أو في الجانب الأَنسِي -بفتح الألف- وذلك مثل تعريفه لـعِرقي: (البَاسليق، القِيفال)؛ فيقول في الأوَّل: إنَّه يقع «في اليد... وهو عند المرفق في الجانب الأنْسِي» (فقه اللُّغَة: 93)، وذكر أنَّ الثَّاني: «في الجانب الوحشي» (المصدر السَّابق)، وأنَّهما مُصطلحان معرَّبان (انظر: المصدر السَّابق).
فتكرَّر عليَّ الاستغراب مرَّةً أخرى، وتذكَّرت أنَّ مُصطلح (الوحشيّ) قد صادفني أثناء قراءتي، وأنَّني تجاهلتهُ متعمّدةً، فصرت أتفكَّر بهذين المصطلحين، وانشغلت بهما -نصف ساعة تقريبًا- ثمَّ قرَّرت أن أكتبهما في ملحوظات هاتفي لعلّي أبحث عنهما في وقتٍ لاحق بعدما أنتهي من مناقشة أطروحتي؛ لضيق الوقت، ولأنَّهما لفتا انتباهي، وذهلت من وجودهما ضمن أعضاء جسم الإنسان! وماذا يقصدان -السُّيوطي والثَّعالبي- بهذين الجانبين؟ وهل هما في جسم الإنسان فقط؟ وما سبب تسميتهما؟ تساؤلات كثيرة تلتفُّ حولهما، وسأحاول الإجابة عنها في هذا المقال المتواضع.
فقد عرَّف ابن منظور (ت711هـ) (الوَحْش)، و(الإنْس)، بقوله: «الوَحْش: كلُّ شيءٍ من دواب البَر ممَّا لا يستأنس... وهو وَحْشيٌّ، والجمع وُحوش...» (اللسان: ج6، 368)، و»الإِنْس: جماعةُ النَّاسِ، والجمعُ أُناسٌ، وهم الأنَسُ... والأنَسُ أيضًا: لُغَةٌ في الإِنْس... والأنَسُ: خِلافُ الوَحْشَةِ... والإنسُ: البَشَرُ، الواحدُ إنْسِيُّ وأَنَسيُّ أيضًا بالتَّحريك» (المصدر السابق: ج6، 12).
كما عرَّف أيضًا الجانبين (الوحشيّ)، و(الإنسيّ)، بقوله: «وكلُّ شيءٍ يستوحِشُ عَنِ النَّاس، فهو وحشيٌّ، وكلُّ شيءٍ لا يستأنِس بالنَّاس وَحشيٌّ... والإنسيُّ منسوبٌ إلى الإِنْس، كقولك: جِنّيٌّ وجِنٌّ وسِنديٌّ وسِندٌ، والجمعُ أناسيُّ ككرسيّ وكراسيّ، وقيل: أناسي جمع إنسان...» (المصدر السَّابق: ج6، 12)، وهما: «شِقَّا كلِّ شيءٍ...» (المصدر السَّابق: ج6، 368).
وقد تباينت أقوال العلماء حول قضيَّة موقع هذين الجانبين في كل مِن: (الإنس، والدَّواب، والجمادات)؛ يقول أبو العبَّاس: «... واختلفَ النَّاس فيهما من الإنسان، فبعضهم يلحقه في الخيل والدَّواب والإبل، وبعضهم فرَّق بينهما...» (المصدر السَّابق: ج6، 368-370)، ومن أبرز تلك الأقوال:
1- الجاحظ (ت255هـ): «والجانبُ الأيسرُ من الدَّابة هو الجانبُ الوحشيُّ» (البرصان والعرجان والعميان والحولان: 552).
2- ابن فارس (ت395هـ): «ووحشيُّ القوسِ: ظَهْرُها، وإنسِيُّها: ما أقبلَ عليك...» (المقاييس: ج6، 91-92)، ولعلَّه يقصد بالظَّهر: الجانب الأيمن، والإنسيُّ عنده، هو: الجانبُ الأيسر.
3- وقد أشار إليهما الثَّعالبيُّ في حاشيته، بقوله: «الجانبُ الأَنسِيُّ: الأيسر، والجانبُ الوحشيُّ: الأيمن» (فقه اللُّغة: 93)، أي: جانبا الإنسان؛ لأنَّه يصف عروق جسم الإنسان.
4- وعند ابن سيده (ت458هـ): «الإنسيُّ الأيسرُ، والوحشيُّ الأيمنُ... وقيل: الوحشيُّ الجانبُ الأيسرُ من البهائم والنَّاس، والإنسيُّ والأنَسيُّ الأيمن» (المخصَّص: ج2، 88).
5-ابن منظور: «وإنسيُّ القدمِ: ما أقبلَ عليها، ووحشيُّها ما أدبر منها، وإنسيُّ الإنسانِ والدَّابة: جانبهما الأيسر، وقيل: الأيمن... وفي التَّهذيب: الإنسيُّ من الدَّواب: هو الجانبُ الأيسر الذي منه يُركَبُ ويُحتَلبُ، وهو من الآدميّ الجانبُ الذي يلي الرّجل الأُخرى... قال أبو زيد: الإنسيُّ الأيسرُ من كل شيءٍ، وقال الأصمعيُّ: هو الأيمنُ، وقال: كلُّ اثنينِ من الإنسان مثلُ السَّاعدَين والزّندَين والقدمَين فما أقبل منهما على الإنسان فهو إنسيٌّ، وما أدبر عنه فهو وحشيٌّ» (اللسان: ج6، 13-14)، وقيل أيضًا: «الوحشيُّ ما ولِيَ الكَتِف، والإنسيُّ ما وَلِيَ الإبْط... ليكون فرقًا بين بني آدم وسائر الحيوان...» (المصدر السَّابق: ج6، 368-370).
6- الفيُّوميّ (ت770هـ): «والوحشيُّ من كل دابَّةٍ الجانبُ الأيمن، قال الشَّاعر:
فمالتْ على شقِّ وحشيِّها
وقدْ رِيعَ جانبُهَا الأيسرُ
قال الأزهريُّ: قال أئمَّةُ العربيَّة: الوحشيُّ من جميع الحيوان غير الإنسان الجانبُ الأيمن... والإنسيُّ الجانبُ الآخر... ووحشيُّ اليد والقدم ما لم يقبل على صاحبه، والإنسيُّ ما أقبلَ» (المصباح المنير: ج2، 651).
وعلى الرَّغم من مسألة الاختلاف بين العلماء، إلَّا أنَّ غالبيَّتهم قد اتَّفقوا على أنَّ (الجانبَ الوحشيَّ) هو الجانبُ الأيمن، (والجانبَ الإنْسِيَّ/ الأَنسي) هو الجانبُ الأيسر سواء في جسم الإنسان، أو الحيوان، أو الجماد، ولعلَّه الأرجح.
ويوضّح أبو هلال العسكريّ (ت395هـ) السَّبب في جعل (الإنْسِي) مقابلًا (للوحشيّ)، بقوله: «أنَّ الإِنْسِيَّ يقتضي مخالفةَ الوحشيّ، ويدلُّ على هذا أصل الكلمة، وهو: الأنْس، وهو خلاف الوحشة، والنَّاس يقولون: إنْسيٌّ ووحشيٌّ، وأمَّا قولهم: إنسيٌّ ووحشيٌّ والإنْس والجِن أجرى في هذا مجرى الوَحْش، فاستعملَ في مضادَّة الأنْس والإنْسان مخالفته البهيميَّة، فيذكرون أحدهما في مضادَّة الآخر، ويدلُّ على ذلك أنَّ اشتقاق الإنسان من النّسيان، وأصله إنسيَان، فلهذا يصغر، فيُقال: أنيسيان، والنّسيان لا يكون إلَّا بعد العلم، فسُمّي الإنسان إنسانًا؛ لأنَّه ينسى ما علِمَهُ، وسُمّيت البهيمة بيهمة؛ لأنَّها أبهمت عن العلم والفهم، ولا تعلم ولا تفهم...» (الفروق اللُّغويَّة: 274-275).
ويقول الفيُّومي في سبب تسمية الجانب الوحشي بهذا الاسم: «لأنَّ الدَّابة إنَّما تُؤتى للرُّكوب والحَلب من الجانب الأيسر، فتخافُ عنده، فتفِرُّ من موضعِ المخافة، وهو: الجانبُ الأيسر، إلى موضع الأمن، وهو: الجانبُ الأيمن، ولهذا قيل: الوحشيُّ الجانبُ الأيمن...» (المصباح المنير: ج2، 651).
ولكن أرى من زاويتي العلميَّة المتواضعة أنَّ الأصل في تسمية الجانب الوحشي؛ يعود إلى كلمة (وَحْش)، وهي: كلُّ ما يستوحش، ويبتعد عنه النَّاس، فعُدَّ الجانب الوحشي جانبًا بعيدًا (الجانب الأيمن) انطلاقًا من هذا التَّعريف، وأنَّ الإنسيَّ جاءت من الأَنَس -لُغَةٌ في الإِنْس- التي من معانيها: الأُلفَة، وإذا ذُكِرَت (الأُلفَة) تبادرت إلى الذهن مباشرة معاني (القُرب والارتياح)، ومنها صار الجانب الإنسيّ جانبًا قريبًا (الجانب الأيسر).
وتختلف دلالتهما في الطب الحديث؛ حيث إنَّهما يعتمدان على (الخط المنصف الجسمي) الذي يقسم جسم الإنسان إلى نصفين ولكن من ناحية العرض (أعلى - أسفل)، بينما في الطب القديم -من خلال التَّعريفات السَّابقة- يظهر لي أنَّ الجانبين قد قُسّما طوليًّا (يمين - يسار)؛ فما «كان أبعد عن المستوى المنصف الجسمي بالنّسبة إلى جهةٍ أخرى، أو جزءٍ آخر»(محاضرة في علم التَّشريح، نبيل الشَّمري: 2)، فهو: الجانب الوحشي (جانبي-Lateral)، وما «كان أقرب إلى قمَّة الرَّأس بالنّسبة إلى جزءٍ آخر، أو جهةٍ أخرى»(المرجع السَّابق)، فيُطلق عليه: الجانب الإنسي (وسطي-Medial)، وهُما يُعدَّان من الاتّجاهات والمواضع النّسبيَّة في علم التَّشريح (انظر: المرجع السَّابق).
** __ ** ** __ ** ** __ ** ** __ ** ** __ **
Twitter: @nada_alnabhan
المصادر والمراجع:
1- البرصان والعرجان والعميان والحولان- للجَاحِظ: 552.
2- مقاييسُ اللُّغَة- لابن فارس: ج6، 91-92.
3- الفروق اللُّغَويَّة- لأبي هلال العسكريّ: 274-275.
4- فقه اللُّغة وسرُّ العربيَّة- للثَّعالبيّ: 93.
5- المخصص- لابن سيده: ج2، 88.
6- لسان العرب- لابن منظور: ج6، 12-14، 368-370.
7- المصباح المنير في غريب الشَّرح الكبير- للفيُّوميّ: ج2، 651.
8- الطب النبوي- للسُّيوطيّ: 353.
9- محاضرة في علم التَّشريح- نبيل الشَّمري: 2.